ارشيف من : 2005-2008

محكمة الضمير العالمي: "إسرائيل" مجرمة حرب

محكمة الضمير العالمي: "إسرائيل" مجرمة حرب

... وأخيراً حقّقت محكمة الضمير العالمي، ما عجزت عنه محاكم دولية شرعية مدعومة من الأمم المتحدة التي يفترض بها أن ترعى كلّ دول العالم من دون تمييز أو تفرقة، والسبب الوحيد والمباشر، هو أنّ هذه المحكمة تتمتّع بحرّيّة كاملة وباستقلالية تامة، بينما بقيّة المحاكم الموصوفة بالدولية، مرتهنة للصفقات السياسية بين الدول ولا سيّما الكبيرة منها، ما يفقدها حيّزاً مهمّاً من حركتها، ويجعلها بعيدة كلّ البعد، عن تحقيق العدالة وإرساء مفهوم العدالة الحقّة.
فللمرّة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي تجرؤ محكمة غير رسمية، وهنا أهمّيتها، على توجيه إدانة مباشرة إلى "إسرائيل" بارتكاب جرائم الحرب والإبادة، وجرائم ضدّ الإنسانية، خلال الحرب المشتركة التي شنّتها مع الولايات المتحدة الأميركية وبغطاء منها وبرضى بعض الدول العربية، على لبنان في شهر تموّز/ يوليو من العام 2006، واستمرّت ثلاثة وثلاثين يوماً سقط فيها الكثير من الشهداء المدنيين والمقاومين والمجاهدين، وتوّجت بانتصار المقاومة الإسلامية.
فعلى مدى الأيّام الجمعة والسبت والأحد في 22 و23 و24 شباط/ فبراير 2008، عقدت محكمة الضمير جلساتها المخصّصة للنظر في الدعوى المقامة من الهيئة القانونية في لبنان والمؤلّفة من الوزير السابق والقانوني الدكتور عصام نعمان، والدكتورين في القانون الدولي محمد طي، وحسن الجوني، والمحامي ألبير فرحات، وعضو رابطة الحقوقيين الأميركيين في القارة الأميركية إيغو دياب، ضدّ "إسرائيل" على ما اقترفته من جرائم يندى لها جبين البشرية، وذلك في عاصمة الاتحاد الأوروبي بروكسل في بلجيكا، وأصدرت في ختامها، حكماً توزّع مضمونه على ستّ صفحات "فولسكاب" باللغة الفرنسية، وقضى بالإدانة المباشرة، وهو ما لم يكن متوقّعاً في أيّ يوم من عمر الكون في ظلّ الهيمنة الصهيونية المستشرية على مراكز القرار الدولي في غير دولة كبرى، وفي غير منظّمة ومؤسّسة عالمية، وبتواطؤ أنظمة عربية يوسم دائماً، بالصمت والسكوت، تخفيفاً له ومنعاً لمزيد من الإحراج.
الأهمية
 وتكمن أهمية هذه الخطوة القانونية غير المسبوقة، في الأمور التالية:
أوّلاً: لمكان اتخاذ الحكم ميزته وخصوصيته وأهميته، فهو صدر في عاصمة الاتحاد الأوروبي الذي يحظى بمكانة دولية وعالمية مشهود لها، وذلك على الرغم من مختلف الضغوطات ومحاولات التشويه التي مارستها المنظّمات الصهيونية للحؤول دون التئام هذه المحكمة، ومنع وسائل الإعلام من حضورها ونقل وقائعها لما قد تثيره لدى الرأي العام العالمي، والأوروبي، من نقمة على أعمال "إسرائيل" العدوانية، وخصوصاً أنّ هذا الرأي العام يتحرّك ويعبّر عن مشاعره من دون وجل أو خوف مثلما يحصل في غير دولة عربية تقمع شعوبها كورقة اعتماد لنيل الرضا الإسرائيلي والأميركي معاً. وبالتالي فإنّ اختيار العاصمة البلجيكية بروكسل لم يكن مصادفة، بل هو من صلب الدعوى، والمخطّط المرسوم لها ولإنجاحها على ما يعبّر (عضو هيئة الادعاء) الدكتور حسن الجوني في حديث مع "الانتقاد".
الخضوع للقانون فقط
ثانياً: تكفّل قضاة بارعون في مجالهم القانوني ومن القارات الخمس، في لفظ هذا الحكم بعيداً عن أيّة اعتبارات، ما عدا اللجوء إلى ضمائرهم الحيّة ومقارنة الجرائم والوقوف على مدى ملاءمتها لما يوجبه القانون الذي يفترض بأن يخضع الجميع له، لا أن يكون مفصّلاً بحسب الأهواء السياسية للدول الكبرى، فتستعمله في تهديداتها بغية تحقيق مكاسب غير قانونية. والقضاة هم: الكوبي أدولفو أبرازال، البرازيلي كلاوديو موفق، الهندي راجين دارساشار، والكولومبية ليليا سولانو، وتغيّب القاضي المصري هشام البسطويسي الذي منعته سلطات بلاده من مغادرة أراضيها كونها مرتبطة باتفاقية سلام مع "إسرائيل".
وما يضفي المزيد من المصداقية على عمل المحكمة ومهنيتها، هو أنّ قضاتها وجدوا نقصاً في الأدلّة المقدّمة لإظهار استخدام العدوّ الإسرائيلي لمادة اليورانيوم، فاستبعدوها من لائحة الاتهامات، وهذا يعني أنّهم عملوا بموضوعية وحيادية بعيداً عن أيّة ضغوط، أو مداخلات، ولم يكونوا منحازين لطرف ضدَّ طرف آخر.
ثالثاً: بات هذا الحكم مرجعاً ومصدراً لأيّ دعوى مستقبلية يقدّمها أيّ مواطن عربي متضرّر من الاعتداءات والهمجية الإسرائيلية، بحيث صار بالإمكان اعتماده كوثيقة للاستناد إليه في تدعيم رأيه وقضيته كونه صادراً عن قضاة مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والاستقلالية.
شفافية المحكمة
رابعاً: صدور هذا الحكم بشفافية تامة وعلى مرأى ومسمع من شخصيات قانونية، ومفكّرين عالميين، وخبراء من كندا وألمانيا وبريطانيا واليابان، وممثّلي منظّمات وهيئات تعنى بالقانون والإنسانية وغير خاضعة لإرادات دولها، وأحزاب من أوروبا، وإيطاليا تحديداً، وسوف يكون لهم تأثيرهم الفاعل في نقل الصورة الحقيقية لشعوبهم بعيداً عن مساحيق التجميل التي تستخدمها الدعاية الصهيونية، وبعض الفضائيات العربية للتمويه والتعمية. ولم يعترض أحد من هؤلاء على المحاكمة لا في الشكل ولا في الأساس، بل إنّها نالت إعجابهم مع أنّها ليست أوّل محكمة ضمير عالمية في تاريخ البشرية، بل سبقتها محكمة "برتراند راسل" التي أطلقها صاحب الفكرة وهذا المشروع الإنساني، المفكّر والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر لمحاكمة الولايات المتحدة الأميركية على جرائمها في حرب فيتنام، وتلتها تجارب مماثلة في عدد من دول أميركا الجنوبية.
خامساً: تضمّن الحكم للمرّة الأولى في تاريخ المحاكم الدولية، جريمة العدوان المذكورة في القانون الدولي ولكن من دون استعمال، وصارت عرفاً يمكن تعميمه وتنفيذه في أيّ حكم أو دعوى مقبلة.
سادساً: كسر الحكم جدار الصمت إزاء فكرة رفض رفع إصبع الاتهام بوجه "إسرائيل"، كما هو شائع بطريقة مغلوطة، وأكّد أنّه يمكن محاكمتها ما دام أنّها ترتكب جرائم وتغتصب أراضي وتعتدي، وما دام أنّ الجميع تحت القانون لا فوقه، وبالتالي فإنّ لهذا الحكم وقع الصدمة على الكيان الإسرائيلي، وله تأثيراته المباشرة في الحدّ من اعتداءاتها وجرائمها، وهو يمثّل بطاقة حمراء مرفوعة في وجهها لمنعها من القيام في المستقبل، بأيّ جريمة من شأنها أن تعرّضها للملاحقة أمام الرأي العام العالمي صاحب الكلمة النهائية في الشجب والسخط، وليس المهمّ أمام محكمة ذات صفة رسمية لا يمكن التعويل عليها كثيراً لارتهانها دولياً، مع أنّه كان مستحيلاً أن تجري محاكمة "إسرائيل" أو مجرّد توجيه أيّ اتهام لها، فهذا ممنوع في عرف المحاكم والمنظّمات الرسمية الدولية.
إعداد الملفّ
كيف تشكّل ملفّ الدعوى؟
يقول المعنيون إنّه جرى إعداد الملفّ من جميع جوانبه بتوثيق الجرائم الإسرائيلية بالصوت والصورة وإحضار شهود لبنانيين تأذّوا وأصيبوا وتضرّروا بفعل هذه الجرائم، ومنهم من يعيش في كندا وإيطاليا حيث يتلقّى العلاج، وكانت لحكايات الوجع التي سردوها كما حدثت من دون تنميق أو تزيين صداها لدى المعنيين، مع أنّ السلطات البلجيكية تمنعت عن إعطاء العدد الكافي من تأشيرات الدخول لنحو 28 شاهداً لبنانياً.
وقدّمت دراسات وأبحاثا قانونية، وعن الخسائر الاقتصادية والبيئية التي لحقت بلبنان، وشارك في إعداد هذا الملفّ الضخم، شخصيات لبنانية، كلّ في نطاق اختصاصه ومجاله العلمي، ومنها: الدكتور نعمان، والدكتور طي، والدكتور كمال حمدان، والدكتورة رانيا المصري، والدكتورة ليلى غانم التي بدأت الفكرة معها فور وقوع حرب تموز/ يوليو 2006، ورئيس لجنة حقوق الانسان في مجلس النواب اللبناني النائب غسان مخيبر.
كما شاركت جمعيات دولية في تزويد هيئة المحكمة بنتائج عملها خلال فترة العدوان، وما آلت إليه فحوصاتها المخبرية في مختبراتها الدولية.
وتمثّل فريق الادعاء بالشخصيات القانونية اللبنانية، ومحامي رابطة الحقوقيين الأميركيين هوغو روينر، وتولّت جمعية بلجيكية، بواسطة محاميها، مهمّة الدفاع، وهي كانت قد دافعت سابقاً عن رئيس الحكومة الإسرائيلية آرييل شارون.
ويؤكّد المعنيون بهذه المحكمة أنّ الادعاء اللبناني والدولي تجاوز الجدل السطحي حول ما يسمّى في القانون الدولي "حادثاً حدودياً"، لا يستدعي الحرب على الإطلاق، وتجاوز أيضاً ما هو معروف في القانون الدولي حول حقّ المقاومة في شن عمليات عسكرية، حتّى داخل أراضي العدوّ، ما بقيت أراضيها محتلة، وأثبت الادعاء أنّ "إسرائيل" دولة مجرمة ينطبق عليها ما انطبق على النازية من دون أن يلفظ أيّ كلمة خارج مواد القانون الدولي، ومن دون أن يستعمل أيّ لفظ سياسي أو أخلاقي. وهذا ما أثار إعجاب القانونيين الدوليين المشاركين.
إذاً، لئلا تبقى "إسرائيل" خارج نطاق العقاب، كانت فكرة إنشاء محكمة الضمير العالمي، وكان هذا الحكم الذي دخل التاريخ من أبوابه الواسعة، وصارت "إسرائيل" مثل أميركا، مدانة بالقانون ومن الشعوب، وذلك على جرائمهما الفظيعة والإرهابية في فيتنام ولبنان.
علي الموسوي
الانتقاد/ العدد1256 ـ 29 شباط/ فبراير 2008

2008-02-29