ارشيف من : 2005-2008
متى تلجأ الإدارة الأميركية إلى تحريك البوارج وإرسال المدمرات؟
يقول بعض الخبراء والمؤرخين الذين وقفوا على ابعاد النزول المفاجئ للأسطول الأميركي السادس على السواحل اللبنانية إبان أحداث عام 1958، إنه تبين لهم أن الهدف الأساس لهذه الحركة العسكرية الأميركية، لم يكن حماية نظام الرئيس كميل شمعون الذي كان قد تداعى بفعل "الثورة" الشعبية التي حاصرته ومنعته من جر لبنان إلى أحضان حلف بغداد الشهير، بل كان حماية النظام الأردني الذي تهدد بالخطر في أعقاب سقوط الملكية في بغداد على يد الضابط عبد الكريم قاسم.
ويذهب بعض الخبراء المطلعين أيضاً إلى القول بأن نزول قوات المارينز الأميركية إلى السواحل اللبنانية في عام 1983، لم يكن لحماية نظام أمين الجميل الذي كانت مهدت له الدبابات الإسرائيلية التي دخلت قصر بعبدا متوجة الاجتياح العسكري الاسرائيلي الواسع النطاق، بل كان لحماية مفاعيل اتفاق 17 أيار الذي كانت المفاوضات اللبنانية ـ الإسرائيلية مرعية بالعين الأميركية، قد وضعت خطوطه العامة والتفصيلية، وحددت معها هوية لبنان، وانحيازه إلى القبضة الاسرائيلية.
وإذا كان معروفاً أن النزول العسكري الاميركي إلى البر اللبناني في نهاية عقد الخمسينيات قد انتهى بعد اتفاق عبد الناصر ـ مورفي الذي انتج تسوية أتت بالرئيس اللبناني الأسبق العماد فؤاد شهاب إلى سدة الرئاسة الأولى يومذاك، فالمعلوم أن الخروج العسكري الذليل لقوات المارينز من لبنان في مطالع الثمانينات أتى إثر ضربة عسكرية كبرى وجهت للقوات الأميركية كانت ذروتها بتفجير مقر المارينز في مطار بيروت الدولي، والتي أسفرت عن أكثر من 280 قتيلاً حملت جثثهم معها القوات الأميركية إلى السفن الراسية قبالة الساحل اللبناني في أسوأ هزيمة عسكرية أميركية في ذاك الوقت.
وبصرف النظر عن الظروف والمعطيات التاريخية التي واكبت تجربة النزولين العسكريين الاميركيين إلى السواحل اللبنانية، فالثابت أن الحركة العسكرية الاميركية الأخيرة المتجسدة بقرار توجيه البارجة "يو أس أس كول" إلى البحر قبالة السواحل اللبنانية يحمل في طياته وأبعاده الكثير من الشبه في المعطيات والدوافع، بين هذه الحركة وحركتي عامي 1958 و1982، لدرجة أن البعض يرى بأن السباق الأميركي يكاد يكون هو نفسه.
أ ـ أي توجيه ضربة مادية ومعنوية تؤثر على قوى عربية صاعدة وممانعة كمثل صعود الموجة القومية العربية ووجهها الناصري في نهاية عقد الخمسينات، وهو الصعود الذي كان بدأ يقارب بلوغ ذروته بعد حرب السويس في عام 1958، وبعد ولادة التجربة الوحدوية العربية بين مصر وسوريا.
ب: حماية قوى ومواقع وأنظمة عربية تدور في الفلك الأميركي والغربي عموماً وتدرج في خانة ما صار يعرف بـ"محور الاعتدال العربي" والحيلولة دون سقوطها أو اعطاؤها حقنة دعم لدفعها إلى المضي قدماً في "خياراتها" التزاماً بالاملاءات والشروط الاسرائيلية ـ الاميركية.
ج: حماية انجازات معينة تكون اسرائيل على اعتقاد بأنها حققتها عسكرياً وسياسياً وتحتاج إلى حضور اميركي مباشر في ساحة المنطقة.
لذا فإن الرصد الدقيق للخطوة الاميركية العسكرية الأخيرة يظهر أنها تحمل بين ثناياها الأهداف والسياقات الثلاثة الآنفة الذكر.
فهي، أولاً تأتي لحماية حكومة فؤاد السنيورة التي لم تعد الادارة الاميركية تخشى من تصنيفها صراحة على أساس أنها الحليف الأقوى والأقرب لدرجة تربط بين السنيورة نفسه وبين محمود عباس في فلسطين وحميد قرضاي في افغانستان وتعده ثالثهم في الاستراتيجية الاميركية في المنطقة.
كما أنها أتت في لحظة بدت فيها تل أبيب في أمسّ الحاجة إلى دعم خارجي يقيها تفاعلات الهزيمة المدوية التي لحقت بها في حرب تموز عام 2006، والتي ظهرت نتائجها مزلزلة في تقرير "فينوغراد" الشهير.
والمعلوم أن الهدف الأساس لجولة الرئيس الاميركي جورج بوش الأخيرة في المنطقة (حدثت قبل أسابيع) كان التخفيف بشكل مسبق من نتائج هذا التقرير على الأقل لجهة عدم اطاحته بحكومة أولمرت، لأن الوجه الآخر لعدم سقوط هذه الحكومة هو في ابقاء حكومة السنيورة في السرايا الحكومية في وسط بيروت برغم ادراك الجميع انها حكومة محاصرة ومشلولة وعاجزة.
وعليه، فإن الحركة العسكرية الاميركية الجديدة أرادت تقديم رفد ودعم معنوي ومادي لحكومتي أولمرت والسنيورة في آن معاً، واطالة عمرهما إلى أقصى حد ممكن برغم إدراك الادارة الاميركية ان عمرهما الافتراضي انتهى، وأن قوانين السياسة والطبيعة والمنطق تفرض من جمهوريهما اسقاطهما ومحاسبتهما على اخفاقاتهما في كل المجالات فوراً.
وعليه أيضاً فلا يمكن الا القول بأن حركة البارجة الاميركية، كانت في جوهرها جزءا من حملة الدعم اليومية لحكومة السنيورة، لذا فإن هذه الخطوة تشبه في روحيتها حركة التهديد بإجراءات وعقوبات ضد شخصيات معينة تدرج عادة في خانة الشخصيات المعادية لحكومة السنيورة.
ولا ريب أن ثمة سبباً إضافياً آخر حدا بالإدارة الاميركية، إلى اتخاذ قرار تحريك البارجة إلى مقابل السواحل اللبنانية، وهو الرد على "شكوى" مستمرة ابداها الفريق الأميركي على الساحة اللبنانية وفحواها أن الدعم الأميركي لها يبقى بالنسبة "حبراً على ورق" ولا يتخطى اطار الدعم المعنوي، ولم يعد خافياً أن هذه الشكوى المرة ظهرت بوضوح في فلتات لسان أركان هذا الفريق ورموزه في الآونة الأخيرة خصوصاً بعد عجزه عن القيام بأية خطوات سياسية تؤكد حضوره الفاعل والمؤثر في المعادلة اللبنانية، وبالتحديد منذ أن عجز عن الاتيان برئيس للجمهورية من لونه أو من رحمه السياسي برغم كل تهديداته وتحذيراته، فباتت قوى المعارضة في وضع القابض تماماً على زمام اللعبة السياسية التي صار جلياً أنه من دونها لا مجال اطلاقاً لتغيير واقع الحال في البلاد.
كذلك صار جلياً أن الحركة العسكرية الأميركية الأخيرة باتت مطلوبة أيضاً لدعم ما صار يعرف في القاموس السياسي الأميركي بـ"دول الاعتدال العربي" بغية ممارسة مزيد من ضغوطها على قوى المعارضة في لبنان وعلى سوريا بالتحديد.
لذا كان واضحاً أن أبعاداً كبرى غير مرئية لهذه الحركة العسكرية الاميركية، تبرز من خلال تزامنها مع الصراع الدائر بين سوريا من جهة ومصر والسعودية من جهة أخرى، حول القمة العربية المزمع عقدها في دمشق، وحول رفض دمشق كل محاولات ابتزازها في هذا المجال من خلال افهامها بكل الوسائل أن عليها لكي تؤمّن فرص نجاح هذه القمة الموعودة أن تضغط على المعارضة في لبنان للتراجع عن شروطها ومطالبها المعروفة لاتمام الاستحقاق الرئاسي، وهي الشروط والمطالب التي تضمن حكماً متوازناً في لبنان وتسوية عادلة ناضجة، ومشاركة حقيقية في القرار الوطني.
وعليه أيضاً، فإن إرسال البارجة "يو أس أس كول" إلى قبالة الساحل اللبناني والسوري بقدر ما يستهدف "شد أعصاب" فريق السلطة الذي بدأت شكواه ترتفع من جراء عجزه عن الفعل ـ وهو قد رحب صراحة وعلانية بالخطوة الاميركية ـ فهو يستهدف حماية حكومة السنيورة أطول فترة ممكنة لأنها تكاد تكون "الإنجاز" الاميركي الوحيد الذي يمكن لادارة بوش التغني به وإدراجه في خانة انجازات تتوهم بأنها تحققت بدعم منها.
والحركة الاميركية الجديدة هي بشكل أو بآخر استتباع لكل الخطوات الأخرى التي اعتادت الادارة الاميركية اللجوء اليها بين الفينة والأخرى كلما وجدت أن المجموعات المتحركة على أساس اشاراتها قد ملت من دور المنفّذ من دون نتائج معينة تخرجها من حلقات حصار المعارضة وتخرجها من صفة العجز والقعود التي صارت بشكل أو بآخر صفة من صفاتها، برغم ما تطلقه من تحذيرات وتهديدات فارغة وادعاءات جوفاء، لم تعد تبل صدى جمهورها نفسه.
وفي الإجمال ليست المرة الأولى في التاريخ المعاصر التي تلجأ فيها واشنطن لسياسة تحريك البوارج والمدمرات، والتلويح بأساطيلها، فكثر في لبنان الذين يحفظون مشاهد طرية عن جنود الأسطول الاميركي السادس ابان نزولهم إلى البر اللبناني في عام 1958 ويحفظون أيضاً صوراً عن هؤلاء وهم ينسحبون بعد فترة قصيرة.
والثابت أيضاً أن عدداً أكبر من اللبنانيين ما زالوا يختزنون في ذاكرتهم صوراً أكثر طراوة وطازجة أكثر، لجثث العشرات من الجنود الاميركيين وهم يجلون إلى السفن قبالة شاطئ بيروت بعد الضربة التي تلقوها عام 1983.
ودائماً كانت استراتيجية اللجوء إلى تحريك البوارج والمدمرات والتلويح بالأساطيل تأتي عند الأميركيين في اللحظات التي يبدون فيها عاجزين وخائبين او على الأقل بدون حاجة لحماية أنفسهم من ضربات محتملة من خصومهم أو يحاولون تلافي تطورات ما تسير رياحها بخلاف ما تشتهيه سفنهم.
ابراهيم صالح
الانتقاد/ العدد1257 ـ 7 آذار/مارس 2008