ارشيف من : 2005-2008
”المدمرات الاميركية“ جبانة تختبئ خلف الأفق ولم تتعظ من أختها ”نيوجرسي“
أنعشت المدمرة الأميركية ”كول“ المتخفية خلف الأفق اللبناني المسدود ذاكرة سكان الأوزاعي وبرج البراجنة في ضاحية بيروت، عندما استيقظوا فجر ذلك اليوم من العام 1982 ليجدوا صفاً طويلاً من السفن الأميركية يقترب من الرمل، فيما تخرج حاملات الجند من الماء وتتوجه للتمركز في مطار بيروت الدولي، وتُحلق طائرات ”هليكوبتر“ بمروحتين، بينما تمركز عدد من جنود البحرية الأميركية فوق سواتر ترابية يراقبون البحر طوال الوقت بمناظير كبيرة.
اعتاد السكان على هذا المشهد اليومي المتكرر، وراح عدد كبير من الذين عاشوا في عهد الرئيس كميل شمعون وثورته يستعيدون حكاية الإنزال الأميركي في العام 1958 على شاطئ الأوزاعي.
في تلك الفترة كان غالبية سكان جبل لبنان، وخصوصاً سكان برج البراجنة، يصوتون في الانتخابات النيابية لنواب الرئيس شمعون، لذلك قرر استضافة المارينز في الأوزاعي بالقرب من المطار، ولأن المد الشعبي للمعارضة اللبنانية تنطلق من الضاحية الى أنحاء بيروت.
أدرك الرئيس شمعون قبل رحيله من الدنيا أن البيت الأبيض الأميركي الذي استجاب لطلبه بعد أكثر من ستة أشهر، لم يتدخل في لبنان من أجل دعمه، إنما جاء بفعل أجندة استراتيجية أميركية على مستوى المنطقة. وهذا ما حدث أيضاً عام 1983 عندما اختارت قيادة المارينز المكان نفسه لإنزال قواتها. ويُشير أحد وجهاء آل السباعي في برج البراجنة من مكانه في حديقة أنشأتها بلدية طهران عند مثلث الكوكوكدي بعد عدوان تموز، الى مبنى قيادة المارينز المدمر في الزاوية الشمالية لمطار بيروت، ويؤكد أن المواجهات بين أبناء الضاحية والقوات الأميركية انتهت برحيل السفن الأميركية في ليلة واحدة! لكن صدى القصف الأميركي لا يزال يتردد في رأسه اليوم برغم تقدمه في السن. ويضيف: عندما كانت ”نيوجرسي“ تقصف عصر كل يوم كانت شوارع الضاحية تغرق في الصمت المخيف، وتهتز الأبنية من أساساتها، لم نكن نعرف حينها من تقصف.. ولماذا؟
تشبه أهداف المدمرات الأميركية "يو أس أس روس" أو "يو أس أس كول" أهداف المدمرة ”نيو جرسي“، التي أخذت على عاتقها عدم العودة الى بيروت ما قبل العام 1982 بعد تراجع الجيش الاسرائيلي منها الى نهر الأولي شمالي صيدا ومساعدة اللبنانيين على بناء سلطة قوية تمنع القوات السورية من العودة الى العاصمة اللبنانية على الأقل.
كان المزاج الشعبي العام مستسلما أمام القوة الأميركية المرابطة في البحر وعلى الشاطئ والمسيطرة على السياسة ودوائر القرار. يومها كان اجتمع عدد من الشباب في "كاراج" لتصليح السيارات في حارة حريك وناقشوا كيفية ضرب القوات الأميركية، وكان واضحاً بالنسبة الى هؤلاء استحالة الوصول الى ”نيوجرسي“، لذلك اختاروا اصطياد جنود البحرية على البر.
يتذكر أحد أعضاء اجتماع "الكاراج" كيف صدرت البيانات في الصحف اللبنانية تستنكر مقتل الجنود الأميركيين في عملية تفجير وقنص، وخفّت هذه البيانات بعدما وجهت "نيوجرسي" قذائفها العشوائية الكبيرة على الضاحية وتسببت بدمار كبير وسقوط عدد من الضحايا.
تسببت المدمرة ”نيوجرسي“ في انقسام اللبنانيين، أو زادت من انقسامهم، وتحولت منطقة المرامل غربي الرمل العالي من محطة الأيتام حالياً الى المطار نزولاً الى شاطئ الأوزاعي، الى معسكرات للقوات الأميركية والجيش اللبناني، أخذت على عاتقها في ذلك الوقت بناءً على طلب الرئيس أمين الجميل، تدريب وتحديث القوات المسلحة اللبنانية في مواجهة قوى المقاومة المناهضة للمشروع الأميركي.
في 23 تشرين الأول من العام 1983، وبعد ليلة خريفية مبللة بالمطر، دوى انفجار كبير تردد صداه في أنحاء بيروت.. ظن سكان برج البراجنة ان ”نيوجرسي“ غيرت أسلوبها في القصف المسائي. خرجت احدى النساء من منزلها في تحويطة الغدير تركض بحثاً عن أولادها، لتطلب منهم الدخول الى غرفة دُشّمت بأكياس الرمل، لكنها فوجئت بغيمة من الدخان الأسود الكثيف تُظلل بيتها، امتدت على (5) كليومترات مربعة، وشاهدت أيضاً الشباب والرجال يركضون باتجاه طريق المطار، وسمعت أحدهم يقول ان انفجاراً كبيرا دمر مقر القوات الأميركية في المطار.
في استعادة لمشاهد الأرشيف التلفزيوني أظهرت الصور عددا كبيرا من المدنيين اللبنانيين يساعدون في اخلاء القتلى والجرحى الأميركيين، فيما الفوضى تقود جنود المارينز في اتجاهات مختلفة.
في أخبار المساء أكد تلفزيون لبنان ان الولايات المتحدة الأميركية فقدت أكثر من 230 قتيلاً، وأن الرئيس الأميركي رونالد ريغان طلب من جنود البحرية الانسحاب فوراً الى السفن التي ابتعدت عن مرمى الرؤية. وكتب كولن باول الذي كان في حينها في منصب نائب وزير الدفاع: "ان جثث جنود المارينز المبعثرة في مطار بيروت لم تُغادر مخيلتي أبداً".
سحبت الادارة الأميركية قواتها من لبنان واعترفت لاحقاً بفشلها في إخضاع المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، التي كانت لا تزال في بداية عملها المسلح.. وفشلت أيضاً في توفير الدعم السياسي والعسكري لمجموعة من اللبنانيين لم تخجل من وضع يدها بيد الأميركيين والإسرائيليين.
وقبل (22) سنة من هذه الهزيمة أقنعت الادارة الأميركية حكومة الرئيس اللبناني كميل شمعون بالانضمام الى حلف بغداد، واستجابت لطلبه في ارسال قوة عسكرية لحماية الجمهورية العربية المتحدة وضبط الحدود مع سوريا لمنع دخول السلاح والمسلحين، وذلك في رسالة بعث بها شمعون الى مجلس الأمن الدولي تسترعي انتباه المجتمع الدولي الى حالة خلاف من شأن استمرارها تعريض حالة السلم والأمن الدوليين للخطر. وهذه الحالة وهذا الخلاف ناجمان عن تدخل الجمهورية العربية المتحدة في شؤون لبنان، وذلك عن طريق تسلل "العصابات المسلحة" من سوريا الى لبنان، وإقدامها على ازهاق أرواح اللبنانيين وهدم ممتلكاتهم، واشتراكها في أعمال الارهاب والثورة ضد السلطات القائمة في لبنان. وشن حملة دعاية عنيفة ضد الجمهورية العربية المتحدة التي تدعو الى الاضراب والتظاهر وقلب السلطات القائمة في لبنان.
بعد أكثر من ستة أشهر على طلب شمعون التدخل المباشر من مجلس الأمن ضد سوريا ومصر، ونحو أربع سنوات على التحرك الشعبي للقوى الوطنية، وصلت البوارج الأميركية الى الشاطئ اللبناني وتمركزت في مجال الرؤية مقابل "السان جورج"، قبل ان تنزل جنودها في الأوزاعي قرب المطار.
والآن بعد (50) سنة على الإنزال الأميركي عام 1958 في الأوزاعي و(22) عاماً على الانزال الثاني في المكان نفسه، أرسلت الادارة الأميركية بعض القطع من أساطيلها العائمة للتمركز مقابل لبنان، فإن الأهداف الأميركية للتدخل هي نفسها، مساعدة الحكومة المحلية في لبنان، ومنع سوريا من التدخل في الشؤون اللبنانية.
الشخصيات السياسية التي عاصرت شمعون وواجهت المارينز في العام 1982، تؤكد ان القوات الأميركية لا يمكن ان تحشر نفسها عسكرياً إلا إذا شعرت بأن "اسرائيل" مُهددة عسكرياً في وجودها، وإن تدخلها من شأنه كبح جماح سوريا. وفي هذا السياق يمكن قراءة الأوامر التنفيذية للرئيس الأميركي جورج بوش بتشديد العقوبات على سوريا واعتبارها منذ أيار 2004 مصدر تهديد للأمن القومي الأميركي.. وفي السياق نفسه صدر القرار الدولي 1559، وبعده أمر بوش في شباط 2008 الذي اتهم فيه سوريا بتقويض الديمقراطية في لبنان.. وكرر بوش تعهده الانتخابي بالوقوف إلى جانب سكان سوريا والمنطقة أثناء سعيهم إلى ممارسة حقوقهم سلمياً وتشييد مستقبل أكثر إشراقا.
ويستبعد سكان منطقة الأوزاعي وبرج البراجنة نزول جنود البحرية الأميركية على الشاطئ قرب مطار بيروت الدولي، ويتوقع أحدهم ان يبحث الجيش الأميركي عن مطار آخر بعيداً عن الضاحية الجنوبية إذا قرروا الانتقال الى البر للاستقرار في لبنان أو في طريقهم الى سوريا.
قاسم متيرك
الانتقاد/ العدد1257 ـ 7 آذار/مارس 2008