ارشيف من : 2005-2008
يأمل بتعويمه زعيماً مسيحياً وواشنطن تريده شرطياً بهراوة أميركية: جعجع في الولايات المتحدة لأول مرة استكمالاً للقاءات "قيادة الثورة"
وأخيراً، وبعد طول انتظار وتهرّب ومن ثم تأجيل قصير، بدأ قائد القوات اللبنانية والسجين السابق سمير جعجع يجهز أغراضه ويراجع تواريخه وأرقامه، ويرتب أوراقه وملفاته وتقاريره، ويضع بنود اقتراح أجندته الجديدة، تحضيراً للزيارة المنتظرة إلى واشنطن، ويرافقه فيها زوجته النائب ستريدا ووزيره جو سركيس ومستشاره إيلي خوري. وهذه هي الزيارة الأولى له من هذا النوع، وقد تستغرق بضعة أسابيع، بعد أن أطلّ خارجياً للمرة الأولى بعد خروجه من السجن، فزار باريس حيث استقبله الرئيس السابق جاك شيراك.
ما هو غير معلن
والمعلن من برنامج زيارة جعجع أنه سيجري سلسلة اتصالات ولقاءات في العاصمة الاميركية مع مسؤولين في البيت الأبيض ووزارة الخارجية والكونغرس، ويعقد اجتماعات مع القواتيين "المنتشرين" في مختلف الولايات الأميركية. أما ما هو غير معلن فسيكون متوافراً للجمهور خلال أو بعد انتهاء الزيارة، كما حصل في الزيارات التي أجراها حليفاه سعد الحريري ووليد جنبلاط في أوقات سابقة، وهما اللذان كانا يساقان إلى لقاءات و"محاضرات" مقرّرة في معاهد أو مؤسسات معروفة بتأييدها المطلق للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية، هذا فضلاً عن اللقاءات التي جرت مع مسؤولين في الإدارة والاستخبارات الأميركية. وسيكون جعجع مدعوّاً إلى أن يعلن مواقف من المتوقع أن يتجاوز فيها مواقف الحليفين، وليس هذا بغريب عليه. وبالتأكيد فإن جعجع الذي تعنيه اللقاءات المعلنة التي تساهم في تعديل صورته لدى الرأي العام العالمي كسجين سابق في جرائم كبيرة، فإنه أكثر ما يعوّل على اللقاءات السرية التي تتيح له شخصياً وصل ما انقطع مع حلفاء الامس والملهمين الأمنيين له، كما مستقبل القوات اللبنانية، وسبل الدعم السياسي والعسكري التي يطمح اليها.
حسابات للمستقبل
ولعل هذه الزيارة تكتسب أهمية فائقة في حسابات السجين الموتور، لما لها من أثر في صعيد رسم مستقبله السياسي في لبنان ضمن الحسابات الأميركية، وتحديد دوره في المرحلة المقبلة من عمر المنطقة التي تشهد إرهاصات تنبئ بتحوّل دراماتيكي وجذري وفق الرؤية البوشية.. وستكون إطلالته من على المنبر الأميركي مختلفة بالكم والنوع عن إطلالاته من ثكنته العسكرية في معراب، حيث سيكون مدعوماً بترسانة اعتاد عليها، سياسية كانت أو عسكرية أو استخبارية، وبوارج أساطيل سبق أن امتدح قدومها إلى شواطئ بيروت.. فيما دعا حليفه جنبلاط إلى عدم الخجل من الترحيب بها، لأنها تمثّل أحد أوجه رياح التغيير التي تعثّرت في العراق، فجاءت لتعصف في أجواء لبنان وفلسطين.
ثورة الأرز
يطلق خبراء ومحللون أميركيون مهتمون بشؤون الشرق الأوسط ولبنان على جعجع لقب "القاتل المدان"، وهو الأميركي التوّجه والإسرائيلي التاريخ، ويحرص على محاولة رفع أسهم زيارته المنتظرة من خلال الدفاع عن وجود البارجة الأميركية "يو أس أس كول" وتبرير إرسالها. بل إنه رأى ضرورة لوجودها قبالة الشواطئ اللبنانية ووجوب شكر "الولايات المتحدة لأنها بشكل من الأشكال تفرض نوعاً من التوازن في حال أراد أي فريق خارجي أن يسبب فوضى في لبنان"! خصوصاً أن دور واشنطن أساسي في دعم "ثورة الأرز، التي لولاها لما كان لبنان كما هو اليوم".
وقد باشر جعجع تنفيذ برنامج زيارته إلى واشنطن باكراً، وبدأ بممارسة دور يحلم بأدائه منذ سنوات طويلة. فبعد أن تنبأ "قديس لبنان" بالويلات والجرائم والتفجيرات المتسلسلة وحدد الشخصيات المستهدفة مسبقاً، انتقل "المتنبي" الجديد ـ مع العذر من الشاعر الكبير ـ إلى تنصيب نفسه مقرّراً وقاضياً وحاكماً في موضوع المحكمة الدولية، وها هو اليوم يوزّع أدوار القادة والحكام اللبنانيين والعرب على حد سواء، ويدعو الى تعميم العداء وإعلان حالة القطيعة والحرب على سوريا من باب جامعة الدول العربية، وهو ما يتقاطع مع الموقف الأميركي المعلن بدفن أي عنصر له سمة "العروبة" أو "العربنة"، قد يدخل في أي حل للأزمة اللبنانية.
أسباب وخلفيات زيارة جعجع
وفي قراءة سريعة لأسباب وخلفيات دعوة جعجع إلى واشنطن يمكن رصد النقاط التالية:
الصورة السوداء والأبواب الموصدة
بحسب المعلومات فإن الادارة الاميركية لم تكن ترغب باستقبال سمير جعجع في واشنطن الذي يشكل حضوره اليها احراجاً داخلياً لادارة بوش بوصفه سجينا سابقا محكوما بعدد من الجنايات وخرج من السجن بعفو سياسي.. ولكن امام اصرار قائد القوات اللبنانية والضغوط التي مارسها حلفاؤه وأصدقاؤه في واشنطن وبيروت، ونظرا للسجل الخدماتي الحافل لجعجع للولايات المتحدة وغيرها، عادت ادارة بوش ووافقت على طلب جعجع.
ويتوقع جعجع ان تفتح زيارة واشنطن امامه الابواب الموصدة في بعض الدول الاوروبية ودول الاعتدال العربي، بما يمكنه من طي صفحة الماضي وغسل الصورة السوداء التي يُعرف بها في العالم. كما أنها باعتقاد جعجع ستتيح له الاطلالة العالمية من نافذة البيت الابيض، والاقتراب اكثر من طموحاته السياسية العليا في الشأن اللبناني.
ـ إبراز جعجع كشخصية تحظى بثقة الإدارة الأميركية، وبالتالي المجتمع الدولي، ما يترجم اعتباره ممثلاً للمسيحيين في لبنان، والموارنة على وجه التحديد. وهذا قد يساعده على تعميمه كخيار دولي لتبوؤ الزعامة السياسية للشارع المسيحي، ما يؤهله لاحقاً لاحتلال منصب رئاسة الجمهورية بعد تهيئة الظروف المناسبة لذلك.
ـ يشكّل جعجع بما لديه من إرث أمني وعلاقات وثيقة مع أجهزة الاستخبارات الخارجية، نموذجاً مؤهلاً لتنفيذ أجندة الأهداف الأميركية في لبنان، خصوصاً لجهة إزالة أي عائق أمام الهيمنة الأميركية الكاملة على مؤسسات الدولة، وصولاً إلى جعل لبنان جبهة هادئة جنوباً.
ـ حنين جعجع إلى أيام الحرب الأهلية في لبنان، وطموحه الجامح لفرض نظام الفدرالية في لبنان، يجعل منه مطلباً أميركياً ملحاً ينسجم مع سياسة "الفوضى البناءة"، سعياً لإعادة تركيب الصيغة اللبنانية وضرب أي طرف داخلي من شأنه عرقلة هذا التوجه، والانتقال لاحقاً تحت شعار "السيادة والاستقلال" إلى استعداء أي بلد عربي أو إسلامي لا ينساق ضمن الفلك الأميركي، وفي رأس القائمة سوريا وإيران.
رئيس على متن البوارج
ومع هذا العرض بات منطقياً الاستنتاج أن زيارة جعجع إلى واشنطن ستفضي إلى جردة حساب يراجع فيها الأميركيون نقاط أجندة العمل السياسي والميداني التي نفذها الركن الثالث في مجموعة الفريق الحاكم في المرحلة التي مضت، والاستعداد لتنفيذ الخطوات اللاحقة في المرحلة التي ستلي، في ظل الضجيج الذي يثيره وجود البوارج الأميركية في مياه البحر المتوسط، وعلى وقع استمرار المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة. ولا شك في أن جعجع يرى نفسه محوراً رئيسياً في خضم التطوّرات الآجلة، وهو ما يحفّزه لكي يثبت إخلاصه مرة جديدة سعياً إلى الجائزة الكبرى، وهي الفوز برئاسة جمهورية لبنان.. الأميركي.
محمد الحسيني
الانتقاد/ العدد1257 ـ 7 آذار/مارس 2008