ارشيف من : 2005-2008
ميشال يصدم جنبلاط وجعجع: المحكمة لن تبدأ إلاّ بعد تحديد المتّهمين
لم يحمل التحقيق المستجدّ مع اللواءين جميل السيّد وعلي الحاج لدى المحقّق العدلي القاضي صقر صقر، أيّة معطيات إضافية، باستثناء المزيد من إضاعة الفرصة لكشف الحقيقة، والإفساح في المجال أمام الفاعل، والجهة التي تقف خلفه تخطيطاً ودعماً مادياً ولوجستياً، للتواري أكثر وأكثر في غياهب النسيان، وذلك بهدف تضييع الحقيقة وإبقاء الملفّ من دون معرفة المجرم الفعلي.
حتّى أنّ اللواء علي الحاج، اختصر ما حصل معه خلال التحقيق على مدى أربع ساعات ونصف الساعة، بكلمة موجزة، ولكنّها معبّرة وذات دلالات هامة، بالقول بصوت عال "إنّها مسخرة"، وذلك على مرأى ومسمع كلّ من كان موجوداً من قضاة ومحامي الادعاء الشخصي ومحاميه النقيب عصام كرم وأفراد من أسرته خلال إخراجه من مكتب صقر في الطبقة الرابعة من قصر عدل بيروت.
على أنّ الحال لم يكن أفضل لدى اللواء الركن السيّد، فاستخدمت مصادر مقرّبة منه ذات الكلمة، أيّ "مسخرة" في معرض الاستفسار منها عمّا دار في التحقيق معه والذي سارعت وسائل إعلام الفريق الحاكم إلى التهليل له للدفع قدماً باتجاه التضليل الاعلامي والاستغلال السياسي، علماً أنّها كانت المرّة الأولى التي يتمّ فيها استجواب اللواء السيّد لدى صقر، والثانية لدى القضاء اللبناني، بعد واحدة سبقتها عند المحقّق العدلي السابق إلياس عيد غداة توقيفه في شهر أيلول/ سبتمبر من العام 2005.
وهذا يعني أنّ السيّد بقي قيد التوقيف من دون استجواب فترة عامين وخمسة أشهر ونيّف، وهذا ليس لمصلحة التحقيق بالمعنى القانوني، ويكشف عن خلوّه من الأدلّة تجاهه، وتجاه أيّ من الضبّاط الثلاثة الباقين، وافتقاده إلى مرتكزات أساسية تعطيه استمرارية الحياة وصولاً إلى كشف النقاب عن الجناة، ما يدلّل على أنّ صفة الاعتقال السياسي هي التعبير الأنسب والأفضل لما آلت إليه حال السيّد والضبّاط الآخرين الحاج وريمون عازار ومصطفى حمدان.
كما أنّ خطوة استجواب السيّد والحاج من جديد، تشير إلى المأزق الواقعي الذي يمرّ فيه التحقيق اللبناني لجهة عدم قدرته على مواجهة مطلب لجنة التحقيق الدولية المحقّ، بالإفراج عن الضبّاط الأربعة لانتفاء الأسباب الموجبة لتوقيفهم، وتعرّضه في الوقت نفسه، لضغط سياسي من فريق السلطة ممثّلاً بقوى 14 شباط/ فبراير، يفرض عليه إطالة أمد التوقيف قدر الإمكان، لتحقيق غايات محض سياسية لا علاقة لملفّ جريمة اغتيال الحريري بها، لا من قريب ولا من بعيد، وإنّما تأتي في إطار مواصلة رحلة الاستغلال السياسي.
وتقول مصادر مراقبة إنّ استجواب السيّد والحاج لا يعكس أي تقدّم في التحقيق كما تهيّأ لفرقة تضليل التحقيق والتعتيم على الرأي العام، بل هو مجرّد تقدّم في القراءة لدى القاضي صقر بعدما أنيطت به مهمّة التحقيق، لأنّ التوقيف حصل أساساً نتيجة لتوصية القاضي الألماني ديتليف ميليس الساقطة والتي تراجع عنها خلفه القاضي البلجيكي سيرج برامرتز في وقت لاحق على اثر تفنيده بالأدلّة والمعلومات، إفادتي الشاهدين السوريين محمّد زهير الصدّيق وهسام طاهر هسام.
وتضيف هذه المصادر أنّه لا وجود لتحقيق لبناني مستقلّ، فإنّ أيّ تقدّم في التحقيق تعكسه فقط استجوابات لجنة التحقيق الدولية التي لم تستجوب أحداً من الضبّاط الأربعة منذ توقيفهم في 30 آب/أغسطس من العام 2005، باستثناء استماع برامرتز للواء الركن جميل السيّد في شهر نيسان/ أبريل من العام 2006 بناء على طلب السيّد نفسه، وليس بسبب حصول تقدّم في مسار التحقيق.
وتؤكّد المصادر نفسها أنّ حركة استجواب القاضي صقر للواءين السيّد والحاج، تأتي لملء الفراغ في الوقت الضائع وإعطاء تبرير ومسوغ سياسي للتوقيف السياسي وليس تبريراً ومسوّغاً قضائياً، وخصوصاً أنّ لجنة التحقيق الدولية أكّدت مراراً على لسان برامرتز، ووكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون القانونية نيكولا ميشال، وتقرير فريق العمل المعني بالاعتقال التعسّفي في المفوضية العليا لحقوق الإنسان في جنيف، أنّه لم تعد لها أيّة علاقة بتوقيف هؤلاء الضبّاط.
المصدومان جنبلاط وجعجع
وشكّل الكلام القديم الجديد الذي أطلقه نيكولا ميشال في مقابلة مع صحيفة "السفير" يوم الثلاثاء في 4 آذار/ مارس من العام 2008، صدمة كبيرة لمحترفي الاستغلال السياسي لجريمة اغتيال الحريري، وفي مقدّمتهم النائب وليد جنبلاط ورئيس الهيئة التنفيذية في "القوّات اللبنانية" سمير جعجع، ولا سيّما بعد محاولاتهم اليائسة لتجيير المحكمة ذات الطابع الدولي لمصلحتهم، وجعلها سيفاً مصلتاً على رقاب كلّ من يعارض سياستهم وارتهانهم للولايات المتحدة الأميركية.
فقد تناوب جنبلاط وجعجع في غير مناسبة خطابية، على التهديد والتهويل بهذه المحكمة بغية إخراجها عن هدفها الحقيقي بمحاكمة قتلة الحريري، ولم يرتدع الأوّل عن تهديد أمهات وزوجات وأبناء الضبّاط بالبكاء دماً وتعليق المشانق، حتّى أنّه فقد صوابه إزاء ما يصله من معلومات عن خلوّ التحقيق من أدلّة قاطعة ضدّ هؤلاء الضبّاط، وانزعاجه من مثابرة زوجة اللواء علي الحاج، الاعلامية سمر شلق الحاج، على رفع صوتها مطالبة بالحقيقة، فانحدر خطابه السياسي إلى التطاول على الزوجات بالقول: "يسدّوا نيعون".
ولكنّ ميشال أعاد البوصلة إلى الاتجاه الصحيح، فأكّد في هذه المقابلة، ما سبق لوكلاء الدفاع عن الضبّاط أن جاهروا به مراراً وطوال سنتين، من أنّ المحكمة لن تبدأ عملها إلاّ بعد تحديد لجنة التحقيق الدولية، للمسؤولين عن الجريمة، فقال إنّ "التحقيق ينبغي أن يأخذ وقته الكافي ولا نعلم متى ينتهي".
تخيّلات زلماي زاد
وجاء كلام ميشال ردّاً على ما خرجت به مخيّلة مندوب الولايات المتحدة الأميركية في مجلس الأمن زلماي خليل زاد من استنتاجات وتصوّرات غير واقعية إثر لقائه به في نيويورك، بقوله إنّ المحكمة ستبدأ عملها في شهر شباط/ فبراير من العام 2008، فانتهى شهر شباط/ فبراير ولم تبدأ المحكمة، وستنتهي أشهر أخرى قبل أن تنطلق عجلات المحكمة.
ويقول أحد وكلاء الدفاع عن الضبّاط الأربعة إنّ قرار إنشاء اللجنة أو المحكمة هو قرار سياسي، ولكنّ العمل القضائي يصطدم حتماً بالأماني السياسية، فالسياسة تريد أن يوجّه الاتهام في اتجاه معيّن وبسرعة، لكنّ مقتضيات العمل القضائي لا يمكنها أن تجاري، لا الأمنيّة السياسية في توجيه الاتهام، ولا الرغبة السياسية في التسريع بإصدار القرار الاتهامي.
ويعتبر أنّ الردّ الصريح الذي قدّمه نيكولا ميشال على تصريحات زلماي خليل زاد، أسطع برهان على الاصطدام الحاصل بين السياسة والقضاء، تماماً كالاصطدام الحاصل بين الأمم المتحدة والقضاء اللبناني بخصوص توقيف الضبّاط الأربعة، فالأمم المتحدة تنصّلت تماماً من هذه التوقيفات، بينما القضاء اللبناني متمسك باستمرارها لحاجات سياسية لبنانية داخلية.
كما أنّ ما أوضحه ميشال يعكس الموقف الفعلي للأمم المتحدة، وما كان وكلاء الدفاع عن الضبّاط قد نبّهوا إليه سابقاً، من أنّه لا يمكن للمحكمة أن تبدأ إلاّ بعد تحديد المتهمين بالأسماء والوقائع والأدلّة، فجهوزية المحكمة في جهازها البشري والإداري واللوجستي لا تعني أبداً أنّها ستبدأ العمل.
وأيضاً، فإنّ كلام ميشال يتطابق مع كلام محامي الدفاع، من أنّ إعطاء إشارة الانطلاق لعمل المحكمة قبل تحديد المتهمين سوف يؤدّي، عبر دفع الرواتب والمصاريف، إلى استنفاد ميزانية المحكمة قبل أن تبدأ، وهو ما يخشى معه إذا صرفت هذه المبالغ وتمكّنت اللجنة من تحديد المتهمين بعد سنة، أو سنتين، أو ثلاث سنوات، ألاّ يعود المال متوافراً لبدء المحكمة، وهذا ما أوضحه ميشال بصراحة عندما قال لن نبدأ بدفع الرواتب قبل صدور القرار الاتهامي.
وباختصار شديد، فإنّ زلماي زاد كان يعبّر عن أمنية سياسية، ولم يكن يعبّر عمّا دار بينه وبين نيكولا ميشال الذي يسعى إلى الحفاظ على مستوى قانوني معقول ومقبول للأمم المتحدة، بعدما دخلت السياسة ساحتها وصارت تتحكّم بمصائر البشر والحجر على حدّ سواء.
علي الموسوي
الانتقاد/ العدد1257 ـ 7 آذار/مارس 2008