ارشيف من : 2005-2008
تشريعها لمصلحة الفرد والمجتمع: الأحكام التكليفية في الإسلام
اعتنت الشريعة الإسلامية السمحة التي بلَّغ مضمونها كاملة خاتم الأنبياء محمد (ص)، بتبيان حكم كل صغيرة وكبيرة من أحكام أمور الحياة التي يعيش تفاصيلها الفرد المسلم، الذي يكوِّن مع نظرائه من الناس "المجتمع الإسلامي"، حيث إن هذا الفرد مدعوٌّ الى تطبيق كامل "الأحكام التكليفية" التي أنيطت به بصفته "فرداً" مسلماً يجب عليه الامتثال لتلك التكاليف الشرعية المفضية حكماً الى تحقيق مبدأ الثواب والعقاب، والتي اندرجت ضمن التعريف الموضوع لها من خلال علم أصول الفقه تحت خمسة عناوين هي: الواجب والمحرم والمستحب والمكروه والمباح.. ليصل المكلف من خلال التزامه بها الى سعادته المرجوة في الدنيا أولاً، وفي الآخرة ثانياً، ويفوز بذلك في الدارين.
الأحكام التكليفية الخمسة
عرَّف الأصوليون الحكم الشرعي بأنه "خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين"، وقسموه الى قسمين: تكليفي ووضعي. وعرَّفوا الحكم التكليفي بأنه "خطاب الله تعالى بالطلب أو التخيير"، ثم قالوا في الطلب إنه إما أن يكون طلبَ فعلٍ أو طلبَ كفٍّ عن فعل، وفي الحالين إما أن يكون مُلزِماً فهو الوجوب والتحريم، وإما أن يكون غير مُلزِم فهو الاستحباب والكراهة. أما التخيير ـ الذي مرَّ ذكره في التعريف أعلاه ـ فهو إباحة الإتيان بالفعل أو تركه على حد سواء.
إذاً يتضح من هذا التفصيل أن الأحكام التكليفية الخمسة هي:
ـ الوجوب: وهو ما ألزم الله تعالى بفعله، كالصلاة والصوم والحج.
ـ التحريم: وهو ما ألزم الله تعالى بتركه، كالسرقة والزنى وشرب الخمر.
ـ الاستحباب: وهو الدعوة الى الفعل مع عدم الإلزام به، كالصدقة والقرض وأداء النوافل.
الكراهية: وهي الردع عن الفعل مع الترخيص به، كبيع الأكفان والذباحة.
ـ الإباحة: وهي الترخيص بالإتيان بالفعل أو بتركه على حد سواء. وهي تشمل كل ما لا يندرج تحت الأقسام الأربعة المتقدمة، كشرب الماء والنوم والكلام. وفي الإباحة قال البعض بعدم وجودها ضمن الأحكام التكليفية، بحجة أن التصرفات الشرعية لا تخلو من أن يطرأ عليها عنوان معين يخرجها عن الإباحة. وردَّ الأصوليون على هذا بأن الكلام في الإباحة إنما هو في الحكم الأولي قبل طروء عنوان آخر عليه، أما إذا زاحمه عنوان أقوى من العنوان الأولي فلا خلاف في إجراء العنوان الأقوى، وهذا بحث آخر.
الحكم الشرعي الوضعي
أما الحكم الشرعي الوضعي فجاء في تعريفه أنه "خطاب الله الذي لا يتضمن طلباً أو تخييراً"، وقصدوا به الأسباب والشروط والموانع التي وضعتها الشريعة للأحكام التكليفية. فاعتبروا أن كل سبب موجب لحكم تكليفي، وكل شرط محقق له، وكل مانع مزيل لأثر السبب، هو حكم وضعي. ومثَّلوا على ذلك بالإرث، فالوفاة مع القرابة أو الزوجية سبب للإرث، وحياة الوارث ذي القرابة أو الزوج شرط للإرث، وقتلُ الوارث لمورِّثه مانع من الإرث.
ملاك الحكم الشرعي
اعتبر أكثر علماء المسلمين أن الأحكام التكليفية تبتني على أساس المصلحة والمفسدة في الفعل، وأن لكل حكم تكليفي "ملاكاً" (علة وسبباً) يتناسب مع طبيعته. وفي قراءة تحليلية لمعرفة علل تلك الأحكام التشريعية اعتبر العلماء أن هذه العلل يمكن إدراكها في مسائل المعاملات، مثل أحكام التجارة والبيع والرهن وما الى ذلك. وأما المسائل المتعلقة بالعبادات مثل الصلاة والصوم والحج وسوى ذلك، فإن عللها بالغالب هي توقيفية، لا يمكن إدراكها لتعذر ذلك من جهة، ولمخالفة الحكم للعلة المفترضة من جهة أخرى. وذهب العلماء الى اعتبار أن ما لا يوجد نص على علته من الأحكام وأدرك البعض سبباً له، إنما يكون هذا الإدراك من حِكم هذا الحُكم الشرعي، وليس ملاكاً أو علة أكيدة له. ويستشهدون على ذلك بعدد من الأمثلة، منها الآية الكريمة: "والمُطَلَّقات يَترَبَّصْنَ بِأَنْفسهنَّ ثلاثةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ في أَرحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤمِنَّ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ"، ففرض على المطلّقة التربُّص ثلاثة قروء بغيةَ استعلام حالها من حيث الحمل وعدمه، فلو كانت حاملاً فعدَّتها أن تضع حملها. قال تعالى: "وَأُولاتُ الأحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ". فاعتبر الفقهاء في هذا المثال أن استعلام حال المطلقة ليس ضابطاً للحكم وملاكاً له، بل هو من حِكَمِه. واستدلوا على ذلك بأنَّه إذا غاب الزوج عن الزوجة مدَّة سنة فطلََّقها، يجب عليها التربُّص مع العلم بعدم حملها منه. وهذا الشاهد يدل على أن بعض ما ورد في الشرع وفُهم أنه علَّة للحكم يمكن أن يكون حكمة ومصلحة وليس علة، ولهذا ابتعد العلماء ـ وتحديداً علماء الإمامية ـ عن الأخذ بـ"القياس الفقهي" في غير منصوص العلة، واعتبروا أنه "لا سبيل للعقل بما هو عقل، الى إدراك جميع ملاكات الأحكام الشرعية. فإذا أدرك العقل المصلحة أو المفسدة العامتين اللتين يتساوى في إدراكهما جميع العقلاء، فإنه لا سبيل له الى الحكم بأن هذا المدرك يجب أن يحكم به الشارع على طبق حكم العقل، إذ يُحتمل أن هناك ما هو مناط لحكم الشارع على ما أدركه العقل، وإن كان ما أدركه نقيضاً لحكم الشرع.. والى هذا يرمي قول إمامنا الصادق (ع): إن دين الله لا يُصاب بالعقول" (العلامة المظفَّر).
التقليد في الأحكام التكليفية
يُعرَّف التقليد في الكتب الفقهية بأنه "العمل اعتماداً على فتوى المجتهد". ولما كانت معرفة الحكم الشرعي متعسرة على المكلف ما لم يكن مجتهداً أو محتاطاً (وفق الاصطلاح الفقهي)، فإن الفقهاء قد أوجبوا على كل مكلف أن يكون في جميع عباداته ومعاملاته وسائر أفعاله وتروكه مقلداً، إلا أن يحصل له العلم بالحكم لضرورة أو غيرها، كما في بعض الواجبات وكثير من المستحبات والمباحات.
إن الأحكام الشرعية المندرجة تحت أي عنوان من الأحكام التكليفية الخمسة، هي نتيجة سلسلة مترابطة من الحلقات المنتجة للحكم الشرعي، التي تبدأ بكتاب الله عز وجل القرآن الكريم، وتمر بالسنّة الشريفة، وصولاً الى العقل الذي استقر الرأي على أنه منتج للحكم الشرعي.. إنما شُرِّعت هذه الأحكام من المولى عز وجل لما فيه مصلحة الفرد أولاً، والمجتمع ثانياً، وامتثالها هو فرض واجب على كل مكلف يؤمن بالدارين: الأولى والآخرة.
عدنان حمّود
الانتقاد/ العدد1257 ـ 7 آذار/مارس 2008