ارشيف من : 2005-2008
الشائعات وآلية حركاتها العنكبوتية
كتب عبد الحليم حمود
إذا ما سلّمنا بتعدد أشكال الشائعات وأنواعها يمكننا تصنيف بعضها بالنمطي، أي المحافظ على ذات القالب وتشابه المحتوى، إنما يكون الاختلاف في الأسماء أو التواريخ أو النماذج.
فمثلاً حين نسمع شائعة تطال شخصية محبوبة، نتذكر أننا سمعنا ما هو مشابه لها عن شخصية أخرى محبوبة، إنما منذ أعوام.
مثلاً أذكر أن أهل الجنوب كانوا شديدي التعلق بمشاهدة المصارعة الحرة أثناء الاحتلال "الاسرائيلي"، خاصة في ظل غياب المحطات المنافسة.. أما أكثر الشخصيات قرباً من الناس والتي أخذت صورة البطل، فكان المصارع كيري فون إيريك. لكن شائعة سرت بين الناس تقول إن كيري صرح بأنه لو كان يعلم بأن أهل جنوب لبنان سيحبونه لما مارس المصارعة! وطبعاً أثار هذا القول المختلف حفيظة الكثيرين من الناس. لكن الجملة ذاتها سمعتها من أشخاص آخرين، إنما عن المطرب الأميركي مايكل جاكسون، اذ ما كان ليغني لو عرف أن العرب سيسمعونه! وكذلك سمعت الجملة ذاتها عن الممثل سيفلستر ستالون.
التنميط في عالم الشائعات يأخذ أشكالاً أخرى أيضاً.. فمثلاً حين تتوقف الروزنامة عند تاريخ له دلالته الشكلية أو الرمزية، نجد أن الشائعات تحضر بقوة، كما حصل عندما انتهت سنة الألفين، فقد سرت في هذا التاريخ أضخم كمية من الشائعات التي أخذ بعضها البعد الديني وبعضها الآخر البعد العلمي. وهناك جماعات تهيأت للانتقال إلى العالم الآخر! كما حكي عن حالات انتحار قبيل الدخول في العام الجديد. حتى أنه بتاريخ 7/7/2007 انتشرت شائعات في الكثير من البلدان عن أمر ما سوف يحصل.
أيضاً تسري شائعات نمطية كهذه حينما يتعلق الأمر برقم فيه ثلاث ستات، وهو رمز للشيطان، أو برقم 13، وهو رقم شؤم عند أكثر الشعوب، وتحديداً الغربية منها، حيث لا يوجد غرفة رقمها 13 في الفنادق ولا مقعد اسمه 13 في القطارات!
من هنا نستطرد لنستعرض حالات أخرى من الشائعات تنطلق على خلفية ماورائية، وهو ما يستفز عالم الخرافات الكامن في أكثر الناس. لذلك ما إن تحصل ظاهرة من ظواهر الطبيعة بدرجة زائدة عن حدها، حتى تبدأ الإسقاطات على النصوص الدينية بهدف إعطاء الظاهرة عنوان الإشارة أو الدلالة. علماً أن أرضية كهذه خصبة للشائعات تعتبر أيضاً من الشائعات النمطية التي تتكرر وبالأدبيات نفسها.
تعرف بعض المذاهب الدينية أو الحركات الأخوية بسريتها، والسرية التي تولد ايجابيات عديدة، مثل تعزيز الهيبة وتضخيم الحجم وحماية المعتقد، تؤدي أيضاً إلى سلبيات عديدة، وعلى رأسها الشائعات التي تتميز في حالات كهذه بطول عمرها. فالسرية تدفع الخصوم إلى تلفيق الأخبار، وحتى الأصدقاء يغرقون في آلية تحليلية، ما تلبث أن تتحول بدورها إلى شائعات. أما أكثر ما يقوي الشائعات تلك فهو امتناع تلك الجماعات السرية عن الرد أو التوضيح، وهو ما يفسّر عادة بصوابية ما رمت اليه الشائعات.
أما الأكثر خطورة فهو التوضيح المجتزأ الذي يزيد اللغز ألغازاً والتأويل تأويلاً، ومع ذلك ثمة ما هو أصعب، أي حين يتضمن الرد على الشائعات جملاً وعبارات مشتقة من صياغات الشائعات نفسها، فيكون التكرار في القالب الرئيسي مع بعض التعديلات الطفيفة التي غالباً ما تفقد تأثيرها في المواطن المشبع بالشائعات.
ليس بالضرورة أن تلتحف الشائعة ثوب الشيطان ويلتحف الآخر الذي يتعرض لها ثوب الملاك، ذلك أن بعض من تطالهم الشائعات هم أهل لها، وربما مساهمون في تأجيجها بهدف بث صورة القوة أو الرهبة أو السحر التي يتمتعون بها.
شائعات تمجد القائد
ان الجماهير التي تعشق شخصية عامة مثل القائد السياسي أو رجل الدين أو الفنان المشهور، تحاول تبنّي أي خبر يتعلق بتلك الشخصية إذ ما كان في الخبر ذكر لفضائلها وبطولاتها أو حكمتها وسرعة بديهتها، وأيضاً دعاباتها المحببة.
إذا ما دقق المتابع قليلاً فسيكتشف أن الكثير من الشائعات الممجدة للشخصيات المحبوبة هي قصص مفبركة تستند إلى الأدب الشعبي. وهناك عبارات وأقوال وأحداث يتكرر سردها عن لسان هذه الشخصية ومن ثم خليفتها، أو شخصية أخرى في بلد آخر.
ان بعض تلك الأحداث تكون قد حصلت فعلاً، إنما في سيناريو مختلف.. لكن طبيعة الجماهير المتيمة بالقائد وهالته أو الفنان وسحره، لن ترضى بسوى تشذيب الحدث واختلاق اضافات ترميمية عليه، وهو ما يتم عادة عبر أكثر من موزّع. فمن تصله الشائعة ينقص حرفا ويزيد حرفا، وهي النسبة الكافية لإعطاء الشائعة درجة الكمال بعد الخطوات الأولى من سلوكها درب الجماهير.
علماً أن العكس صحيح، فخصوم تلك الشخصية الرمزية يلعبون اللعبة ذاتها وبالوتيرة ذاتها، إن لناحية سرعة سريان الشائعة أو عملية التشذيب والإضافة.
تعدد المصادر يقوي مصداقية الشائعة
يكمن خبث الشائعة في آلية حركتها العنكبوتية من دون الوقوف عند أي اعتبارات طبقية أو فكرية، وهو الأمر الذي يضعضع ثقة أصحاب الممانعة الذين يعرفون كيف يتصدون للشائعات والأقاويل. فالخبر الذي يسمعه الإنسان من جاره وأخيه ورب عمله والخباز والجزار والمدرس، لا بد من أن يكون خبراً صحيحاً، أو فيه الكثير من الصحة، وإلا كيف له أن ينتشر ويصل إلى كل هؤلاء بتعدد ثقافاتهم وأماكن وجودهم. يقع أكثر الناس في مطب قول لا نعلم إن كان مأثوراً وهو يقول:
"لا يوجد دخان بلا نار"، وهو ما يُستند به غالباً لتعزيز الرأي القائل بصوابية الشائعة.
هنا أذكر حواراً تلفزيونياً أجرته الإعلامية اللبنانية ماغي فرح على شاشة المستقبل مع الوزير إيلي حبيقة، فعندما دخلت في موضوع الاتهامات التي تربط بين اسمه ومجازر صبرا وشاتيلا نفى حبيقة نفياً قاطعاً، ورد بأنه يستطيع الآن أن يقول إن ماغي فرح هي عميلة اسرائيلية، هكذا وبلا مقدمات! ثم سألها: ماذا ستكون النتيجة؟ الأرجح أن الخبر سيعلق في أذهان الكثيرين وسيترك أثراً فيهم، حتى لو فندت فرح مزاعم تلك التهمة.. يومها وبشيء من السخرية و"الهلع" طلبت فرح من حبيقة الانتقال إلى الموضوع التالي!! يُذكر أن إيلي حبيقة كان مسؤول المخابرات السابق في القوات اللبنانية، ويعلم جيداً آلية مخاطبة لا وعي الجماهير، وكيفية فبركة الأخبار ونسبها إلى هذا أو ذاك.
إذا عدنا إلى الإنسان عموماً فهو جاهز لتصديق كل ما يسمعه، طبعاً إذا لم يكن في الكلام ما يتجاوز حدود المنطق.. والتصديق هنا ليس آفة سلبية، بل حسن ظن بالآخرين، كل الآخرين، وهو أمر مطلوب ويعززه تراكم سنوات من الكلام الصادق. من هنا تصعب مقاومة الشائعة الكاذبة، خاصة إذا رُويت عن لسان كل هؤلاء المقربين منّا.
أما إذا عدنا إلى مقولة "لا يوجد دخان بلا نار"، فنوضح أن واحدة من تعريفات الشائعة كونها "دخان بلا نار"، ولننتبه تماماً إلى ما حصل بين الوزير حبيقة والإعلامية فرح.
الانتقاد/ العدد1257 ـ 7 آذار/مارس 2008