ارشيف من : 2005-2008
واشنطن: حرب في أميركا اللاتينية وقودها كولومبيا
هل يسعى الرئيس بوش إلى التركيز خلال الأشهر القليلة المتبقية له من حكم الولايات المتحدة، وفي ظل الهزائم العسكرية والسياسية التي تلاحقه في الشرق الأوسط، من باكستان إلى شاطئ البحر المتوسط، لاجتراح إنجازات في أمكنة أخرى من شأنها أن تنجيه من الفوز بوصمة الرئيس الأكثر فشلاً في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية؟ هذا السؤال يطرح نفسه بحدة على ضوء جملة الأحداث اللافتة التي وقعت خلال الأيام القليلة الماضية، إما بمبادرات أميركية مباشرة وإما بدفع أميركي مباشر للحلفاء نحو خطوات تصعيدية ذات منحى عسكري واضح. عدوان إسرائيلي على غزة.. صفقات سلاح أميركي وأوروبي ضخمة لكل من "إسرائيل" وبعض الجهات العربية "المعتدلة".. جولة لبوش في أفريقيا على رأس أولوياتها إقامة قواعد عسكرية أميركية في بعض بلدان القارّة.. إعادة توتير الوضع في البلقان عبر تشجيع كوسوفو على إعلان الاستقلال من جانب واحد.. مناورات عسكرية مشتركة بين الأساطيل الأميركية والكورية الجنوبية.. وأخيراً لا آخراً، هجوم عسكري يشنه الجيش الكولومبي يوم السبت الماضي (1/3/2008) على معسكر مؤقت للقوات المسلحة الثورية "فارك" داخل حدود الإكوادور، أسفر عن مقتل القيادي رقم (2) في هذه القوات راؤول ريس، إضافة إلى 17 من مقاتلي المنظمة.
اللافت في الهجوم أنه جاء في أجواء يهيمن عليها بعد إطلاق "فارك" سراح ستة رهائن منذ بداية العام الحالي، تقدم ملحوظ في سير المفاوضات الجارية بوساطة من الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز بين مقاتلي "فارك" اليساريين والحكومة الكولومبية. وكانت هذه المفاوضات قد قطعت شوطاً كبيراً باتجاه إطلاق "فارك" سراح 39 رهينة (بينهم فرنسية من أصل كولومبي وعدد من الأميركيين)، مقابل إطلاق السلطات الكولومبية سراح 500 من "رجال العصابات" التابعين لـ"فارك". ولا يخفى مدى تأثير نجاح المفاوضات في دفع الأوضاع داخل كولومبيا التي تستعر فيها الحرب الأهلية منذ أربعين عاماً، نحو الحسم السياسي، خصوصاً بعد أن كادت الانتخابات الرئاسية التي جرت العام الماضي تطيح بحكم الرئيس الكولومبي ألفارو أوريب المدعوم أميركياً، في وقت أصبح فيه هذا النظام شبه معزول في ظل التحول اليساري الذي يجتاح أميركا اللاتينية. وقد اعترف أوريب صراحة بخوفه من تداعيات المفاوضات عندما أعلن بعد عملية السبت الماضي في أراضي الإكوادور، أن هوغو شافيز والرئيس الإكوادوري رافائيل كورييا، يستغلان الوساطة للتدخل في شؤون كولومبيا. وبالطبع استخدم أوريب وصفة الدفاع المشروع عن النفس عندما قدم العملية على أنها جاءت ردا على نيران أطلقت من داخل الإكوادور، نافياً في الوقت نفسه أنها تشكل مساساً بالسيادة الإكوادورية. لكن أصواتاً ارتفعت داخل كولومبيا لتعلن استياء الكولومبيين العاملين من أجل السلام إزاء سياسة أوريب "الحربجية" التي أدخلت المنطقة في مجال منطق الحرب. وبالفعل ردت كل من الإكوادور وفنزويلا بإجراءات عسكرية. إذ بعد سحب السفراء حشدت الإكوادور جيشاً على حدود كولومبيا، في حين أرسلت فنزويلا عشر فرق مدرعة تضم ألفي جندي إلى الحدود، كما قامت بتعبئة قواتها الجوية. أما رئيس نيكاراغوا دانييل أورتيغا، فقد اعتبر أن اغتيال ريس هو محاولة من كولومبيا لمنع الحل التفاوضي. ويأتي هذا الموقف بغض النظر عن الميول المشتركة بين شافيز وأورتيغا الذي تقع بلاده على بعد ألف كيلومتر من شواطئ كولومبيا، لتؤكد المخاوف من تحويل التوتر الكولومبي الداخلي إلى أزمة إقليمية وحتى دولية، مع إعراب المصادر الأميركية عن استهجانها لرد فعل شافيز على مقتل ريس. وفي حين دعت فرنسا إلى التحلي بضبط النفس والتركيز على إطلاق الرهائن، بعد أن كان الرئيس ساركوزي على وشك إضافة مأثرة جديدة إلى مآثره العديدة في إطلاق السجناء (ليبيا وتشاد)، اقتصر التوتر بين كولومبيا وجارتيها المباشرتين ـ فنزويلا والإكوادور ـ حتى الآن، على التصعيد الدبلوماسي مع سحب السفراء، والدعوة التي وجهها رافييل كورييا إلى الأسرة الدولية وطالب فيها بإدانة الاعتداء الكولومبي.
تصعيد دبلوماسي وكلامي أيضاً، حيث لم يترك شافيز وكورييا ستراً يغطي أوريب إلا وهتكوه.. الكذب في دعوى إطلاق النار من الإكوادور، وكون أوريب زعيم مافيا ورئيس حكومة مخدرات وزمرة مجرمين تديرهم واشنطن، وصولاً إلى وصفه بـ"جرو الامبريالية الأميركية". ومع ذلك فإن احتمالات التصعيد العسكري من قبل فنزويلا والإكوادور تبدو ضعيفة بسبب الرهان على التداعيات السياسية الإيجابية للمفاوضات حول الرهائن، الأمر الذي يُستشف من تصريحات أعلنت فيها مصادر "فارك" أن سقوط أحد قادتها لا يؤثر في المبادرات المطروحة من أجل تسوية قضية السجناء والرهائن.. اللهم إلا إذا كانت الأزمة الأكثر خطورة في أميركا اللاتينية خلال السنوات الأخيرة محكومة برغبة الرئيس بوش في المقامرة بفتح جبهة مواجهة جديدة يزج فيها بصنيعته الكولومبي في حرب يحول هوس المحافظين الجدد دون ملاحظة سمتها الأساسية، أي كونها الأقرب، بين سائر حروبهم، من حدود الولايات المتحدة.
ع.ح.
الانتقاد/ العدد1257 ـ 7 آذار/مارس 2008