ارشيف من : 2005-2008
حرب الغاز والتوازنات الدولية الجديدة
عادت حرب الغاز لتندلع مجدداً بين روسيا وأوكرانيا بعد اتفاق كان قد أبرم بين البلدين مطلع العام الحالي، لكنه لم يلبث أن تعرض للانهيار وسط اتهامات روسية لأوكرانيا بالاستمرار في تهريب كميات من الغاز الروسي الذي يمر في أنابيب عبر أراضيها باتجاه أوروبا الوسطى والغربية.. وبعد انتهاء مهلة الإنذار الروسي لأوكرانيا بتسديد ديون مستحقة عليها تقدر بحوالى مليار دولار. أوكرانيا ردت بأنها سددت قسماً كبيراً من الديون، ولكن عن طريق عملاء تأخروا في تسليم الأموال إلى روسيا. كما أنكرت التهمة المتعلقة بتهريب كميات من الغاز الذي تصدره روسيا إلى أوروبا. غير أن ذلك لم يحظَ بقبول الروس الذين عمدوا إلى تقليص إمدادات الغاز لأوكرانيا بنسبة الربع. وملخص الإشكال أن روسيا قد توصلت في ظل بوتين، إلى رفع سعر الغاز الذي تصدره إلى أوروبا من حوالى 90 دولاراً للألف متر مكعب، إلى سعر قريب من سعر السوق العالمية، أي إلى حدود 250 دولاراً. إلا أنها استمرت برغم المواقف المعادية التي اتخذتها الثورة البرتقالية، بالتعامل معها وفق السياسة التفاضلية مع الحلفاء الذين يحصلون على الغاز الروسي بسعر يتراوح بين 50 و90 دولاراً. ومع ذلك تقوم أوكرانيا على ما يقوله الروس، بتهريب قسم من الغاز المرتفع الثمن الذي يمر في أنابيب عبر أراضيها باتجاه أوروبا لتدفع ثمنه بالسعر المخفض، وربما لإعادة بيعه بالسعر المعتمد في السوق الدولية. وقد جاء تخفيض الإمدادات في ظل توجه روسي صريح نحو إعلان حرب الغاز على أوكرانيا لأسباب أخرى سياسية على صلة بتكثيف المساعي الجارية بهدف انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي. والحقيقة أن خفض إمدادات الغاز الروسي ليس المظهر الوحيد لتلك الحرب، فقد أكد الروس مؤخراً أنهم ينوون وضع حد نهائي للمعاملة التفاضلية التي تحظى بها أوكرانيا، حيث يعتبرون أن اختيار أوكرانيا لاقتصاد السوق يستلزم بيعها الغاز الروسي بسعر السوق. ومن جهة أخرى يبدو أن روسيا تزداد تصميماً على حرمان أوكرانيا من الأرباح التي تجنيها من مرور الغاز الروسي عبر أراضيها، فقد وقعت روسيا عقداً مع ألمانيا لإنشاء خط أنابيب بطول 2000 كلم تحت مياه بحر البلطيق، وعقداً مماثلاً مع بولندا لإنشاء خط آخر عبر بيلاروسيا.. والعمل جار حالياً في هذين المشروعين. وإضافة إلى ما يشكله هذا التطور من ضغط على أوكرانيا، فإنه يثير الكثير من القلق في العديد من بلدان أوروبا التي تعرضت قبل عامين لمعاناة شديدة عندما قطعت روسيا إمدادات الغاز عن أوكرانيا، وبالتالي عن تلك البلدان، خلال تفجر الأزمة الأولى بين البلدين.
والمعروف في هذا المجال أن كلاً من سلوفاكيا وبلغاريا واليونان وتشيكيا والمجر والنمسا وبولندا تعتمد على الغاز الروسي القادم من أوكرانيا بنسب تترواح بين 60 و100 في المئة، وأن ثلث الاستيراد الأوروبي من الغاز يأتي من روسيا. ويتزايد القلق خصوصاً في ظل تصميم روسيا التي تمتلك أكبر احتياطي من الغاز في العالم، على اعتماد النفط والغاز كدعامتين في مسعاها الهادف إلى استرجاع موقعها كقوة كبرى على مسرح السياسة الدولية. وإضافة لذلك تستفيد روسيا من الصعوبات السياسية والجغرافية التي تعيق وصول النفط والغاز الرخيص الثمن من أواسط آسيا إلى أوروبا عبر القفقاس والبحر الأسود. كما تستفيد من تجديد إيران ـ التي تمتلك الاحتياطي العالمي الثاني من الغاز ـ الدعوة التي أطلقتها روسيا قبل سنوات لإنشاء كارتل للغاز على غرار أوبك، والتي حظيت بدعم من بلدان كالجزائر وقطر وفنزويلا، والتي ينتظر أن تحقق المزيد من التقدم خلال الاجتماع الوزاري السابع للبلدان المصدرة للغاز الذي سيُعقد في موسكو في تموز/ يوليو القادم. وفي هذا المجال تعتبر البلدان المنتجة للغاز، وخصوصاً إيران وروسيا، أن البلدان المستهلكة لا تزال تتحكم بالأسعار عبر الاستفادة من تشرذم المنتجين ودخولهم في مفاوضات منفردة مع المستوردين. وقد كان مشروع الكارتل بين أهم أهداف الزيارة التي قام بها مؤخراً إلى موسكو الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، في وقت تشير فيه التوقعات إلى أن إنشاء التكتل العالمي للبلدان المصدرة للغاز لم يعد غير مسألة وقت لا أكثر. والأكيد أن انضمام الجزائر إلى الفكرة يشكل مبعث قلق شديد في أوروبا، وخصوصاً في فرنسا، لأن الغاز الجزائري يمثل بالنسبة اليها فسحة مهمة في ظل تصاعد الضغوط الروسية. كما أن التزايد المطرد لاحتياجات أوروبا من الغاز ودخول كل من الصين والهند على خط الطلب المتنامي على هذه المادة، يمنح البلدان المنتجة فرصاً ثمينة للمضي قدماً نحو المزيد من تدعيم مواقفها. وفي الوقت الذي يشهد تراجعاً واضحاً لفكرة الأحادية القطبية الأميركية، يأتي الغاز ليفسح في المجال أمام قيام عالم أكثر توازناً، وربما أيضاً أمام قيام عالم بتوازنات جديدة في ظل تعددية دولية باتت إيران أحد أبرز أقطابها.
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ العدد1257 ـ 7 آذار/مارس 2008