ارشيف من : 2005-2008
محرقة في جباليا وقودها الناس والحجارة.. ثلاثة أيام تحصد مئة شهيد وخسائر العدو يعلمها المحاصرون فقط
غزة ـ خضرة حمدان
محتل غاصب مرّ من هنا، اغتصب الشمس والقمر كما انهال على الأرض بلعناته التي حملها منذ بدء الخليقة، قتل الطفل ولم يكتفِ، بل كل من هب منقذا كان له بالمرصاد، دخل مهلهلاً إلى المخيم وخرج منه مصحوباً بخيبة يجرها جراً وتلحقه إلى كل يوم يصحو فيه وينام.
الاحتلال الصهيوني الغاصب الذي اجتاح شرقي جباليا لثلاثة أيام، قتل ودمر ولم يغادر المنطقة إلا خراباً ولكن أهلها قالوا: "سنبقى ها هنا ولن نغادر، ولا نخاف قدوماً يقتل ودائماً يجتاح ويتوغل ويقصف ويرسل النيران لتصطاد زهرات عمرنا، ولكننا باقون وسنخرجهم من كل فلسطين".
هذا كان لسان حال مواطني عزبة عبد ربه شرقي جباليا البلد حيث اقتحم الاحتلال المكان دافعاً بمئات من جنوده وآلياته الحربية برفقة طيران حربي مروحي لم يغادر سماء المنطقة ولو للحظة.
المواطنة أم ساهر عبد ربه قالت بصوت مرتفع: "مهما صنعوا لن نغادر فنحن نعلم أننا شوكة في حلقهم، قالوا لنا عندما احتلوا منزلنا نحن هنا للقضاء على صواريخ غزة، وهذه لن تكون المرة الأولى لنا فهذه البداية".
بداية ما قال عنه وزير الحرب الصهيوني "حرب برية شاسعة في قطاع غزة هدفها القضاء على مطلقي الصواريخ ووقفها" فيما توعد أحد مساعديه غزة بـ"محرقة" أو هولوكوست جديدة. فكان هناك محرقة شرقي المخيم الصامد، بيوت دمرت وأطفال قتلوا بتعمد القتل لا غير، وسيدات أطلق المحتل نيرانه نحو أبنائها من دون أن يسمح لمسعفين بالتقدم..
ثلاثة أيام عاشتها جباليا في جحيم المحرقة، فـ116 شهيداً قتلوا بأبشع صنوف القتل ووسائله، منهم 39 طفلاً و12 سيدة وبيوت أهالها المحتل على رؤوس مدنيين لا ذنب لهم سوى أنهم فلسطينيون يقطنون غزة.
نساء في ظل الجحيم...
رأيتها تهرول إلى منزلها بدت شاحبة الوجه وبحالة لهاث، كانت تعجّل الخطوات عندما اقتربت على بعد أمتار قليلة من منزل الشهيدة جاكلين أبو شباك (17 عاماً) التي حاولت إنقاذ شقيقها إياد (14 عاماً) من موت محقق، فكانا شهيدين تباعاً، أحدهما برصاصة استقرت بالقلب والآخر بشظايا قذيفة مدفعية نثرت الأحشاء بالجوار..
حثّت أم شادي شحادة (50 عاماً) الخطى حتى قاطعتها بالطريق سألتها أين تذهبين ومن أين أتيت؟ قالت: "ها قد وصلت إلى بيتي فقد حوصرت لثلاثة أيام في خانيونس ويوم خرجت علمت أن قوات الاحتلال الصهيوني الغاصب اجتاحت جباليا من أربعة محاور واحتلت منزلي وحولته إلى ثكنة عسكرية، وهذا اليوم الأول الذي أستطيع به العودة للمنزل كي اطمئن على افراد عائلتي التي بقيت محتجزة في غرفة واحدة ليومين كاملين دون غذاء أو ماء".
هدى شحادة تدرس التمريض قالت بلوعة وخوف شديدين: "حاولت الخروج من غرفتي التي احتجزنا فيها العدو فقال لي جندي يحرسنا لا يمكنني السماح لك فإنني أخاف أن تقتلينني" فقالت: "ليتني أستطيع أن أقتلك إن أطلقت سراحي".
تقول: "قدم قرابة خمسين جندياً عصر يوم السبت الماضي إلى منزلنا وهم مهلهلين وثياب بعضهم ممزقة قالوا لنا نريد أن نرتاح قليلاً فنحن قادمين مشياً على الأقدام من سديروت "شرقا" كان يبدو على أكثرهم التعب قاموا بافتراش أرض المنزل والسلّم والصالة الكبرى بكافة فراشنا ونام العديد منهم فيما اتخذ بعضهم من النوافذ مكانا للتمترس خلفها بعد ان حطم زجاجها وحطموا أثاث المنزل من أسرّة وقاموا بخلع البلاط وإنشاء سواتر ترابية على أبواب الشقق العليا كما سجنوا كافة من في المنزل بغرفة واحدة تبادلوا الحراسة عليها ليومين متتالين".
وعندما قام أفراد العائلة بسؤالهم عن هدف الاجتياح قال العديد منهم: "نحن هنا للقضاء على الصواريخ التي تضرب سديروت وعسقلان وللقضاء على حركة حماس والجهاد الإسلامي وكل من يطلق الصواريخ".
أم ساهر عبد ربه تؤكد أنهم أطلقوا النيران عن قرب على معتصم عبد ربه فأردوه شهيداً كما أطلقوا النيران على طارق عبد ربه ومحمد صالح من الحي وتركوهما ينزفان أمام أعين النساء والأطفال ولم يسمحوا لسيارات الإسعاف بنقلهما.
المواطنون درع بشري لهم
وتضيف أم ساهر: "لقد قاموا بسرقة الذهب وبدأوا بتدمير الشقق العليا للمنزل ونحن نسمع ذلك بعد أن احتجزونا في سرداب البيت، أي اتخذوا منا درعاً بشرياً وهم يعلمون أن المقاومين لن يستهدفوا منزلا فيه مدنيون مثلنا، ولكنهم قاموا باستهداف مدنيين في عدة منازل قريبة مثل عائلة أبو شباك التي سقط منها شهيدان، فتاة وشقيقها، وعائلة دردونة التي قتلوا منها ثلاثة، وعائلة عبيد التي سقط منها الأب ونجله وأصيب ابنه الثالث، وكذلك قامت مدفعية قريبة من منزلنا باستهداف عائلة عسلية وأطلقوا قذيفة باتجاه المطبخ قتلوا فيها الشقيقتين سماح وسناء وحولوا جثتيهما إلى أشلاء".
الطفلة سلسبيل أبو جلهوم (21 شهراً) فقط لم يتسن لها أن تتم عامها الثاني حيث باغتتها شظية أحد الصواريخ لتحيلها الى "الشهيدة الرضيعة".
وكانت عائلة أبو سيف بانتظار فاجعة مشابهة حين استشهدت ابنتهم صفاء رعد علي أبو سيف (12 عاماً) في فناء منزلها برصاص إسرائيلي حيث منعت سيارات الإسعاف حينها من نقلها للمستشفى إلا بعد فترة من الزمن وتدخلت مؤسسات حقوق الانسان لتنسق مع الجانب الإسرائيلي ليسمح لهم بنقل جثمانها للمستشفى, حتى أن مراسم دفنها قد أقيمت دون أن تتاح لعائلتها فرصة توديعها نظرا لمحاصرتهم في بيتهم شمال القطاع.
وفي بيت مجاور لهم كانت تقطن عائلة أبو ركبة التي أجبر أفرادها على الرحيل منه لاستهدافه عدة مرات من قبل المدفعية الإسرائيلية وقربه من خط النار، فمنهم من وجد المأوى في بيت أقربائه في غزة ومنهم من التجأ للجيران, تساهيل أبو ركبة والدة لستة أطفال لخصت معاناتها بقولها: "طوال اليوم أبحث عن اطفالي كي أمنعهم من الحراك خارج المنزل لخطورة الوضع، لا أجد معينا لي فزوجي مسافر في الخارج وأبي كهل مريض".
أضافت "لا أحد منا يستطيع النوم فصوت الرصاص والصواريخ الإسرائيلية يرعب الأطفال ويجعلهم يبكون حتى ساعات متأخرة من الليل".
بعد يومين انتهى الاجتياح وقد اصطاد الأرواح والبناء الحجري والأشجار وبدأت العائلات تلملم جراحها والمواطنون يتوافدون إلى أقاربهم فيما انتقل جزء كبير من المواطنين إلى مشافي القطاع لتفقد الجرحى والكل على موعد مع اجتياح آخر لا أحد يعلم أين أو متى.
الانتقاد/ العدد1257 ـ 7 آذار/مارس 2008