ارشيف من : 2005-2008
وهم القدرة على الحرب
وتزايدت التهديدات الإسرائيلية والإشارات الأميركية الموجهة الى قوى المقاومة في لبنان وفلسطين والى سوريا في هذا المجال، وحتى الى إيران. وعاش الناس تحت هاجس كأن الحرب الاسرائيلية او الاميركية هي القدر المحتوم على من لا يقف في الصف الاميركي المطواع.
وضعت سيناريوهات عدة للحرب، وحُددت لها اهداف، ورسمت نتائج، وذهب البعض الى البناء على النتائج المفترضة للحرب، وهي ضرب قوى المقاومة والممانعة العربية المتبقية في هذه الأمة البائسة لولا ضوء المقاومة. وبدأ البعض في لبنان وخارجه يمارس حرباً نفسية استباقاً لهذه الحرب، ومما تم استعماله مثلاً الكلام عن نزوح شعبي كبير لأهالي الجنوب والضاحية الى مناطق اخرى في لبنان او الهجرة الى خارجه، بهدف واحد هو إحباط معنويات جمهور المقاومة في لبنان، وأكثره مستقر في الجنوب والضاحية الجنوبية. وللمناسبة هما منطقتان تعجان بزحمة السيارات والناس هذه الايام الى حد الاختناق.
إلا ان كل هذه الحملة الترويجية للحرب ونتائجها المفترضة، قامت على وهم اسمه قدرة الكيان الاسرائيلي على شن حرب واسعة ومدمرة، ساعة يريد وأين يريد، مستنداً الى دعم اميركي مفتوح سياسي وعسكري، قيل إن المدمرات والبوارج التي حضرت الى البحر المتوسط تقع في سياقه، مسبوقة بتهديدات اميركية وضغط دبلوماسي دلّ على «نفاد صبر بوش» من سوريا ومن «حزب الله» وحركات المقاومة الفلسطينية كلها. ومعطوفة على كلام عربي في الإطار ذاته وإن بلهجة أخف وبلغة عربية متعددة اللكنات.
هذه الحملة الترويجية الافتراضية، لوقوع الحرب، تغاضت عن مسائل عدة، ما جعلها غير مسنودة الى منطق مقبول، أولى هذه المسائل ان المروّجين والمطبّلين للحرب، تغاضوا عن احتساب ردة فعل الطرف الآخر المفترض انه العدو. هل يستكين وهل هو ضعيف، وفي حال قرر المقاومة ما هي حدود مقاومته؟ والعدو المفترض هنا ليس مجرد جيش نظامي صغير ومحدود الامكانات، ولا مجرد مجموعات مسلحة معزولة في صحراء او في أدغال مترامية، العدو المفترض لإسرائيل هنا هو شعب مقاوم ينطلق من بيته وأرضه، ويحفظ فيها عن ظهر قلب، كل شبر تراب وكل صخرة وشجرة وموضع زهرة ونبتة تبغ، ومحط عصفور، و«مرقد عنزة».
ثمة استخفافٌ مقصود بقدرة الشعب العربي على بذل مزيد من المقاومة ضد اسرائيل، وثمة تقليلُ احترام مقصود من قدرة المقاومة وقيادتها وجمهورها للمس بقدسيتها، وثمة استهتارٌ مقصود بدم الشهداء الذي اريق ويراق منذ الانتفاضة الفلسطينية الاولى، وصولاً الى المعركة الاخيرة في غزة، مروراً بحرب تموز العظيمة. ثمة من وصف العملية الفدائية الحقيقية التي نفذها الشهيد علاء بودهيم في مدرسة تخريج الصهاينة التلموديين في القدس المحتلة بأنها «اعتداء على إسرائيل». وهو توصيف مقصود، لا ينال من عظمة شهادة علاء ولا من قوة الضربة على الكيان الاسرائيلي، ولا من نتائجها على مجتمع هذا الكيان.
لقد فرض دم الشهيد بودهيم على الكيان الاسرائيلي وقف العدوان على غزة، بل وقف نار شاملاً من طرف واحد ولو غير معلن، وفرض عليه العودة الى التفاوض ولو لكسب الوقت وتغيير اتجاه الرأي العام الاسرائيلي المصدوم من هول هذه العملية الاستشهادية العظيمة. وهو شاب واحد من فلسطين، الحبلى بطنُها بآلاف مشاريع الشهداء كما لبنان.
لم تعد لإسرائيل هذه القدرة السحرية على شن حرب واسعة ضد لبنان وفلسطين، من دون ان تحسب جيداً حسابات كبيرة سياسياً وأمنياً واقتصادياً وشعبوياً. لم تعد لها قدرة الردع السهل والمنتج، ولم تعد حروب اسرائيل عامل استنهاض توراتي او تلمودي او عامل جمع صهيوني في «ارض الميعاد»، ثمة مقاومة ايضا تملك ناصية الردع.
لم يعد الأميركي قادراً، كما كان، على فرض معادلات وتغيير معادلات عبر القوة، ربما بات يستسهل خلق الفتن والاختراقات والحروب الداخلية، لكنه مربك ومأزوم ايضاً، ما يدفعه الى عراضات القوة البحرية او الجوية.
ثمة شيء تغير في المنطقة العربية يسبب هذه الهجمة الكبرى الاميركية ـ الاسرائيلية الدعومة عربياً وأوروبياً، سقط وهم قدرة اسرائيل على شن حروب خاطفة منتصرة.
ثمة نتائج حرب تموز العظيمة في لبنان. وثمة صمود غزة العظيمة، ولو في بحر واسع من الدماء والدمار.
المصدر: صحيفة السفير اللبنانية، 11/3/2008