ارشيف من : 2005-2008
صدام الأساطير والروايات التاريخية
كتب سليمان تقي الدين
لكل جماعة لبنانية أسطورتها الدينية والتاريخية. في المسار العام لتجربة العيش المشترك تتستر الجماعات على ما تعتبره منفّراً للآخر أو مدعاة دهشة واستغراب. تمارس الجماعات طقوسها في حياء وخفر ولا تظهر منها إلى العلانية إلا ما هو مألوف في دائرة الذوق العام. ولأن في تراث كل جماعة شيئاً من الافتئات على الآخر أو التعالي عليه فهناك لغة باطنية تحسب حساب مشاعر الآخرين وتتقرّب منهم. انفلتت هذه الضوابط في الحرب الأهلية، وعبّرت عن نفسها في سلسلة من المنشورات أعطت بُعداً ثقافياً لحال العداء السياسي، فأدخلت إلى الخطاب السياسي تعابير دالة على طرد الفريق الآخر من الجنة على المستوى الديني، وإسقاط رتبته من الحضارة إلى أدنى سلّم قيمها.
مع نهاية الحرب شهدنا اتجاهاً معاكساً واستئناف لغة «التكاذب المشترك». فقد نشأت لجان ومؤسسات حوار ومراكز أبحاث للتقريب بين المذاهب والأديان وبين التيارات الفكرية والسياسية. في حصيلة هذه التجربة لم ينجز إلا القليل في دائرة النخب الفكرية المحدودة التأثير والانتشار. لكن الإيديولوجيا أصلاً تراجعت كثيراً لتخْلي المكان إلى التقاسم الحبي والحميم للسلطة والمغانم.
أما وقد عاد النزاع السياسي فقد انطلقت بقوة آلة التحريض والتوصيف والتشريح في وسائل هائلة القوة والتأثير. لقد صارت وسائل الإعلام المرئي هي الأداة الأخطر في تكوين صورة الجماعات بعضها عن بعض. كما اتسع بشكل مريع صف «المثقفين» صانعي الصور والأفكار مع تراجع مذهل في المستويات الثقافية والمعرفية لصالح موهبة الاستعراض والخطابة المسطحة التي تغرف من يوميات السياسة التي يصنعها قادة أكثر فقراً على صعيد القيم والكفاءة.
لكن المستجد أيضاً، وهو ليس بقليل، أن الجماعات باتت تكشف عريها وتمارس طقوسها الاحتفالية على المستويين الديني والسياسي بلا خجل من الآخر وبلا حساب لانطباعاته وردة فعله. وفي الكثير من هذه الطقوس والإيحاءات التي تبثها ما لا يتفق مع أساطير الآخرين ورواياتهم التاريخية، فضلاً عن أنها تبعث الخوف والقلق. فهذه الممارسات تأتي لتأكيد الذات المتميز بأكثر التفاصيل الممكنة التي تؤكد الاختلاف في منظومة العيش ونمط الحياة والتفكير.
لقد دخل الحذر المتبادل إلى العلانية وانزلقت الألسن مطالبة بإيجاد حدود فاصلة بين التظاهرات الجماهيرية المختلفة. لكن ما زال المجتمع يضمر أكثر بكثير مما يفصح عنه في لغة الفرقة والتباعد والهواجس والبحث عن خيارات. ولا يوجد حوار ولا مؤسسات حوار ولا وسائل توصيل للحوار تخفف من غلواء ما يجري، بل هناك تفاوض سياسي غير مفصول عن ميزان القوى الحربي، وقد دخل السلاح إلى الساحة علناً. فنحن أمام مشهد متكامل من عناصر الانقسامات ومن التفتيش عن مخارج أقل ما يقال فيها لدى البعض إنها خارج أسطورتها الأصلية الدينية وروايتها التاريخية ووعيها لذاتها. هذا الانقلاب على الذات لا يمكن تفسيره باتجاه واحد وبسبب وحيد. هناك جملة أسباب من بينها صورة الآخر التي يساهم هو في تقديمها حتى لو كان الأمر في إطار إثبات الذات أو الدفاع عن النفس.
لم يعد ممكناً معالجة شؤون وشجون المجتمع اللبناني وفق أي صيغة يمكن أن توحي أو تحمل عناصر الغلبة لأي فريق كان. ولعل خير دليل على ذلك، خارجاً عن موضوع سلاح المقاومة والسياسة الدفاعية وعلاقات لبنان الخارجية، هذا الاختلاف الجذري والعميق حول قانون الانتخاب. هذا القانون لا علاقة له بالمحاور الدولية والإقليمية. ولا شأن للسياسات الخارجية في ترجيح أحد الخيارات فيه. إنه الدليل القاطع على انقسام الطبقة الحاكمة وانشطارها ورغبتها في إعادة تجديد سلطتها كل فريق منها بما يناسب مكاسبه من هذا القانون. ولأن المشكلات بين اللبنانيين كثيرة ومتنوعة وليس ممكناً إنتاج حلول لها من داخل التوازن الحالي وتعارض المصالح بين أطرافه، تتعزز الحاجة إلى فترة حكم انتقالي له طابع تأسيسي لإيجاد حلول أقرب إلى صورة لبنان الموحد. فإذا كانت الظاهرة «البونابارتية» متعذرة في المعطيات الراهنة فلا بأس من حكومة مديرين بصورة من الصور تعيد إحياء مؤسسات الدولة وهياكلها وتوقف مسار التفكك.
وباستثناء المركزية السياسية، يحتاج لبنان إلى أوسع حد ممكن من اللامركزية لاستيعاب ظاهرات هذه التعددية التي تأخذ البلاد إلى الفوضى إذا لم ينتظمها قانون عام.
كل المعطيات في محيطنا تشير إلى تفاقم الصراعات الدولية وتعريض المجتمعات العربية إلى امتحان الوحدة أمام سياسات الانغلاق والتمييز والكبت والتفرقة والامتيازات وأمام الشعور الطاغي بالانكسار أمام الموجة الاستعمارية الجديدة. إن إعادة بناء الدولة في لبنان وفي العالم العربي تحتاج إلى رؤية ترتكز إلى أوسع أشكال المشاركة وتعزيز ثقافة الانفتاح والحوار والديموقراطية.
المصدر: صحيفة السفير اللبنانية، 4/3/2008