ارشيف من : 2005-2008
سياسة البوارج والقانون الدولي
كتب عبدالإله بلقزيز
كل شيء مقرف في المشهد العربي اليوم، حروب داحس والغبراء التي لا تنتهي بين العرب حتى وإن دارت رحاها اعلامياً، رخص الدم الفلسطيني المسكوب يومياً في غزة، نزيف الحياة ووحدة الشعب والكيان في العراق، مأزق الرئاسة المديد في لبنان، دعوات التحريض على الفتك بالسلم الأهلية في أكثر من مكان، النزاع على قمة دمشق ونصاب التمثيل فيها. ولم يكن ذلك كله يكفي كي يهال التراب على وضع عربي قضى تحت معاول خلافات بنيه واحتلالات الأجانب، كان لا بد من جرعة اضافية أكبر: ارسال بوارج حربية أميركية قبالة الشواطئ اللبنانية، واطلاق يد “إسرائيل” في الدم الفلسطيني من دون حدود.
تقول إدارة بوش إن ارسالها البوارج تلك الى شواطئ لبنان إنما هو من باب “دعم الاستقرار” في هذا البلد وفي المنطقة. لم يقل لها أحد من العرب من مسؤوليهم أعني إن بوارجها تزعزع الاستقرار وتنتهك سيادة لبنان وأمن المنطقة العربية. حتى الحكومة اللبنانية، وهي الأعنى من غيرها بالموضوع، لاذت بموقف إعلامي يجنبها تبعة اتخاذ موقف سياسي فأعلمت شعبها والعالم بأنها لم تطلب دعماً عسكرياً يعزز الاستقرار أما ماذا عن وجود مدمرات حربية على مقربة من شواطئها، فأمر لا رأي لها فيه. وكيف يكون لها رأي فيما لا رأي فيه لمن هن أكبر منها من حكومات عرب هذا الزمان، ولك أن تضيف الى صمت العرب صمت ما يدعى ب “المجتمع الدولي”. إذ لا رأي في هذه “النازلة” للأمم المتحدة ومجلس الأمن فيها والدول المشاركة في قوات اليونيفيل في جنوب لبنان والراعية للقرار 1701. أي لا رأي لها في ما يمكن أن تفضي إليه الخطوة الأمريكية المنتهكة للقانون الدولي من نتائح قد يكون منها انهيار حالة التهدئة في جنوب لبنان وتدفيع الآلاف من قوات اليونيفيل ثمن سياسات أميركا غير المشاركة في تلك القوات.
لنتخيل أن روسيا أعلنت عن ارسال مدمرة حربية قبالة الشواطئ اللبنانية من أجل “تعزيز الاستقرار” الاقليمي. ماذا كان يحصل يا ترى؟ قطعاً سيكون رد الفعل الدولي والاقليمي والعربي واللبناني مختلفاً تماماً: أكثر مبدئية وتمسكاً بالقانون الدولي وأشد غضباً وأعلى لهجة. ستصنف الخطوة الروسية “المفترضة” فوراً في خانة انتهاك القانون الدولي وتعريض الأمن والسلم العالميين للتهديد، وفي خانة التدخل في الأزمة اللبنانية لمصلحة فريق المعارضة وتوفير أمن استراتيجي لسوريا، أو تهديد أمن قوات اليونيفيل في جنوب لبنان. ستطالب أمريكا والاتحاد الاوروبي و”حلف شمال الأطلسي” وأمين عام الأمم المتحدة روسيا بالتراجع عن خطوتها فوراً. أما الحكومات العربية، فلن تتخلف عن أداء واجبها بالدفاع عن أمنها “القومي” ضد “الخطر الروسي” من طريق طلب دعم بحري عسكري أميركي.
ولا شك أن حكومة لبنان حينها ستتخذ موقفاً سياسياً فلا تكتفي بالقول إنها لم تطلب من روسيا ارسال مدمرتها وإنما ستعتبر ذلك انتهاكاً صارخاً لسيادة لبنان وتهديداً لأمنه.
هي، طبعاً، مجرد فرضية، لكنها ثابتة النتائج، فلا يخطئ تقديرها لبيب. وليس السبب أن الأمر فيها يتعلق بروسيا التي لا تزال حتى الآن مزعجة لأميركا وحلفائها الاوروبيين والعرب. فقد نستطيع أن نضع في قلب الفرضية اسم أي بلد غير أميركا، فتكون النتيجة ذاتها. يصح ذلك حتى لو كان البلد معتدلاً وليس في سيرته المعاصرة ما يهدد أمناً أو يزعزع استقراراً. هل كان سيسمح لمصر مثلا أن ترسل سفينة حربية قبالة الشواطئ اللبنانية للغرض نفسه “تعزيز الاستقرار”؟ هل يختلف أحد في أن أميركا و”إسرائيل” ستقيمان الدنيا ضد هذه الخطوة التي لن تقرأ سوى أنها تهديد لأمن “إسرائيل”، وأن الاتحاد الاوروبي والأمم المتحدة سيسارعان الى مطالبة القاهرة بسحب قوتها البحرية فوراً واحترام القانون الدولي.. الخ.
أميركا فوق القانون، لأن قانونها هو الأعلى بعد إذ سقطت حرمة الشرائع الدولية. نحن نعرف هذا منذ زمن بعيد: منذ بدأت أمريكا تفرض معاييرها وأحكامها على العالم، فتخوض الحرب ضد من شاءت ومتى شاءت غير آبهة باحتجاج هذا وهمهمة ذاك، وتستثني مواطنيها من المثول أمام العدالة الدولية، وتبيح لنفسها التدخل في الشؤون الداخلية للدول غير عابئة بحرمة السيادة الوطنية: وهي من مقدسات السياسة الدولية منذ ميلاد منظمة الأمم المتحدة ونهاية الحرب العالمية الثانية. نعرف هذا، شعوباً ودولاً تحترم نفسها، ولا نقبله أو نسلم به. غير أن من العرب، بكل أسف، من يعرف ذلك ويسلم به كقدر مقدور لا راد له! وإلا متى كان من الأعراف أن يصمت العالم على انتهاك القانون الدولي؟
نعم، ندرك جيداً أن قدرة الدول العربية على الاعتراض محدودة، بل معدومة، وأن تمسكها بالقانون الدولي الذي هو تمسكها بسيادتها وبأمنها القومي المستباح بالأساطيل والقواعد والاملاءات السياسية الخارجية لن يغير شيئاً في سياسات الادارة الأميركية على المستوى الاستراتيجي. غير أن الفارق، عظيم بين التسليم بتلك السياسات كأمر واقع وبين الاعتراض عليها باسم القانون الدولي على الأقل. إذ التسليم بها يمنحها شرعية عربية (هي التي تفتقر الى الشرعية). أما الاعتراض عليها ولو بالقول: اللهم إن هذا منكر، فلا يحفظ لهذه الدول و(الحكومات) بعض ماء الوجه أمام شعوبها فحسب، وإنما يرفع غطاء الشرعية الداخلية (العربية) عن سياسات الاستباحة والغطرسة الأميركية وينتزع منها الذرائع التي تتدثر بها لتفعل ما تشاء، والتي ترد بها على من يطالبها من القوى الكبرى باحترام القانون الدولي.
ونحن إن لم نحترم القانون الدولي، فلن يحترمنا أحد.
المصدر: صحيفة الخليج الاماراتية، 3/3/2008