ارشيف من : 2005-2008

الحزن الواعد

الحزن الواعد

كتب إبراهيم الموسوي
ليس مصادفةً أبداً أن يتطابق مطلع السنة الهجرية في الأول من المحرم في كل عام من التقويم الهجري الإسلامي بحسب الروزنامة القمرية مع بداية عاشوراء الإمام الحسين (ع)، وانطلاق موسم الأحزان، كأنما أريد للسنة الهجرية أن تبدأ باستذكار أحد أهم الأحداث التاريخية والملاحم الإلهية التي خلّدت انتصار إرادة الخير على الشر، مهما كان الجلاد بطّاشاً ومجرماً.
في كربلاء، انتصر الدم على السيف، وخلّد التاريخ بسطور من نور إحدى أروع المآثر الإنسانية في الجود والإيثار والشجاعة والبطولة والتضحية والعطاء والفداء، مكرمة ما بعدها مكرمة، وارتفاع ما بعده وصول، وعروج إلى سدرة منتهى العشق في ظل عرش الرب الأكرم.
عاشوراء مدرسة، نستلهم منها كل المعاني، ونعيش فيها كل المآثر، مدرسة الحب الخالد، وذروة الفناء في سبيل الله في رحلة الركب المقدس إلى لقائه سبحانه وتعالى، هي اختصار مكثف لعشق الخلق والخالق، إنها الامِّحاء والفناء في الحب، ومزايلة النفس.
عاشوراء الإمام الحسين (ع) هي لحظة الحب الإلهي في قلب الإنسان اشتعالاً، وانشغالاً عن كل ما سواه، هي لحظة الاتحاد الكامل في مملكة الله، هي لحظة امِّحاء الأنا، وتنزُّل السلام المقدس على قلوب طلبت فوجدت فعرفت فأحبت فعشقت فعُشقت، فقتلت امِّحاءً وذوباناً في طلب القرب من الحضرة الإلهية، هي الحضور إلى نبع السعادة الخالدة وتناول كؤوس أثير شراب زلال سرمد العشق الإلهي الأبدي، هي الارتواء الكامل.
في دنيا المسلمين، أسماء لامعة خالدة لزهّاد ومتصوفين ملأوا الدنيا وشغلوا وما زالوا يشغلون الناس، بترفعهم وتقواهم وزهدهم وتواضعهم لله، لأنهم ذاقوا حلاوة محبة الله فلم يروموا عنها بدلاً، والحسين عليه السلام سيدهم بلا منازع، أليس هو القائل والفاعل.
إلهي تركت الخلق طراً في هواك
وأيتمت العيال لكي أراك
فلو قطعتني في الحب إرباً إرباً
لما مال الفؤاد إلى سواك
في حضور الحسين (ع) تغيب كل المشاهد ولا يبقى الا ذلك الحزن الجليل المهيب الجميل "ما رأيت إلا خيراً" و"ما فعل الله بي إلا خيراً"، الحزن المهيب، حيث لحظة التوهج الإنساني من عمق الجراحات والآلام.
ليس استرجاع الذكرى استدعاءً للألم، إنه استحضار لفرح إلهي لحظة وقوف الإنسان بين يدي خالقه وبارئه، لقاء العاشق بالمعشوق بعد طول سفر وانتظار، لحظة الذهول عن الذات والغير، لحظة التحرر والانعتاق من كل قيدٍ وأسر، والتأهل لملاقاة الحضرة الربانية، ألم يرو كل من حضر الحسين (ع) في كربلاء أنه كلما حمي الوطيس وأثخن جسده الشريف بالجراحات وضربات السيوف والرماح تلألأ وجهه كأنه قمر دري في ذروة الاكتمال، ما سر ذاك النور المتلألئ، والبِشْر الطافح الذي ملأ كيانه.
ليست الحياة الدنيا الا استراحة ساعة في مجلس لتناول كسرة خبزٍ وشربة ماء، وليس العطش إلى الماء الا عطشاً ظاهراً، فالعطش الحقيقي هو للتظلل بكنف رحمة الرب، وحتى حدث التظلل كان الارتواء بأقدس الفيوضات والاشراقات، ارتواء لا يليه عطش ولا سغب ولا وجع ولا تعب ولا جوع.
في عاشوراء هذا العام كربلاءات كثيرة من أفغانستان والعراق إلى فلسطين ولبنان، جلاّدها واحد، يزيدها واحد، وحسينها واحد، جلاّدها ويزيدها هو جورج بوش، وحسينها هو كل هؤلاء المقاومين الشرفاء على امتداد جبهات الظلم والاحتلال، الذين يضيئون بطهر دمائهم الجنبات المعتمة في هذه الأمة، ويرفعون لها رايات النصر والعز والكرامة والمجد. هؤلاء يقولون بدمائهم إن ثورة الحسين(ع) ما زالت مستمرة ضد كل طاغوت مستكبر وعدو محتل ظالم، وإن هذه الثورة الانسانية هي مدرسة كونية تتسع لكل الأحرار والشرفاء من كل جنس ولون ودين وعرق، هي معركة أزلية أبدية ما بين الخير والشر، وما دام هناك من عجزوا عن اقتلاع الشر من أنفسهم وجعلوه حرفة وملة ضلالة وتضليل سيكون هناك حسين يثور ويقاوم ويضحي وينتصر!
بئس الطاغوت بوش وأتباعه من حلفاء وأذناب، أما الذين يقاومون فطوبى لهم وحسن مآب!
الانتقاد/ العدد1249 ـ 11 كانون الثاني/ يناير 2008

2008-01-11