ارشيف من : 2005-2008
قوى 14 آذار تحاول تلميع صورتها بمؤتمر يرفع شعارات تخالف مسيرتها السياسية الخائبة
ليست المرة الأولى التي تحاول فيها تلك المروحة الواسعة من القوى المنضوية تحت لواء قوى 14 آذار، أن تبلور نفسها وأن تكرس ذاتها إطاراً سياسياً، تظهر فيها أقرب إلى الوحدة منها إلى شتات لقوى متنافرة تجمعها مصلحة ظرفية.
ولكن الغريب في الأمر هذه المرة أن "يشطح" طموح هذا الفريق اللامتجانس والذي يجمع في جنباته بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، ومنابت تاريخية متعارضة، يجمح ليمسي ـ كما زعم البيان الأخير الصادر عن المؤتمر الصحافي الذي عقده بعض الذين يحسبون أنفسهم "منظري" هذا الفريق ـ البحث عن وضع "عقد اجتماعي جديد".
لم يعد خافياً أن يسعى هذا الفريق في الذكرى الثالثة على انطلاقته ليظهر نفسه بمظهر الفريق الموحد صاحب الرؤية المتجانسة للوطن وهويته التاريخية والمستقبلية بعد سلسلة الإخفاقات التي مني بها، إن على مستوى تجربته البالغة البؤس والسوء في الحكم، التي انتهت بعد أقل من ثلاثة أعوام إلى الصورة التي بلغها الوطن من شرذمة وانقسام وحكم معطل ومشلول وحكومة محاصرة ومشكوك في شرعيتها، كل همها قهر أكثر من نصف شعبها، وكل ما "يطربها" هو صوت سيدها الأميركي يمحضها الدعم والرفد بكرة وأصيلا، لأن هذا الأمر دون سواه صار قاعدتها الوحيدة للحكم والاستمرار، وعلى مستوى الإخفاق والعجز عن تقديم أي حل أو انضاج أي تسوية مستندة إلى رؤية وطنية متكاملة الأبعاد تحقق فعلاً مبدأ السيادة وتكرس حقيقة مبدأ الاستقلال والحرية.
فالمعلوم أن هذا اللقاء المسمى "لقاء قوى 14 آذار" هو أكثر من "نكّل" وأطاح بفكرة "العقد الاجتماعي والسياسي". فهو على سبيل المثال وليس الحصر، استفاد إلى أقصى الحدود من قوة حضور التيار العوني ـ في الشارع المسيحي ومن التراكم النضالي لهذا التيار خلال الأعوام الأربعة عشر التي سبقت تحرك 14 آذار الأولي ـ انقض على هذا التيار منذ عودة زعيمه وملهمه العماد ميشال عون من منفاه الباريسي، وعمل بالتالي جاهداً لعزله وإقصائه.. بل عمل قبلاً على منع عودته إلى بيروت قبل الانتخابات النيابية، متهيباً دوره في استعادة الزعامة "المسيحية" المستقلة صاحبة النفوذ والحضور في شارعها، متكئاً على شريحة مسيحية أخرى محاصرة بشهية الإجرام والقتل والبحث عن فيدراليات وكونفدراليات بحدود مقفلة ومناطق موحدة، وسوى ذلك من طروحات تقوم على العداء للآخر، وعلى التخويف من الآخر.
وبعدما أثبت هذا التيار العوني قوته وحضوره في الشارع والذي أفضت عنه بجلاء نتائج الانتخابات العامة في المناطق ذات الأكثرية المسيحية، كان كل هم هذا الشتات المسمى "لقاء 14 آذار" التقليل من قوة هذا التيار وإبعاده، وكرّس جلّ قوته ونفوذه لاحقاً للحيلولة دون تجذّر هذا التيار وتنامي حضوره عبر تقديم أوسع الدعم للفريق المسيحي المتبع له، والذي تعرف الى رمزه الأول سمير جعجع الذي خرج لتوه من السجن بسجل تاريخي أسود حافل بالقتل والإثم والعدوان، ويدرك أن رمزه الثاني أمين الجميل صاحب التجارب الفاشلة والخائبة في الحكم والسياسة، بعدما نجحت الدبابة الاسرائيلية في التمهيد له للوصول إلى الرئاسة الأولى، فكان أن خرج من الرئاسة الأولى عام 1988 ليخرجه جعجع إلى الخارج منفياً طريداً، ثم عاد بعد أعوام إلى لبنان بعد توسط من دمشق، ومن يومها يحاول استعادة ملك لم يحافظ عليه محافظة الرجال.
ويكمل هذا الفريق رحلة التنكيل والانقضاض على التعهدات والتفاهمات من خلال خروجه على الاتفاق الرباعي الذي أمّن له أكثرية نيابية مهدت له الإمساك بالحكومة.
وواصل هذا الفريق ـ الذي يجاهر اليوم زوراً وبهتاناً بأنه يبحث عن صيغة لعقد اجتماعي جديد (يا لها من كلمة ضخمة) ـ رحلة غدره بالتحالفات والتفاهمات السياسية التي هي عماد أي تجربة سياسية في أي بلد من البلدان، "فيشتري" ذمم ثلاثة وزراء محسوبين أصلا على رئيس الجمهورية وعُينوا وزراء ليؤمنوا نصاباً وزارياً يمنع فريق بعينه من الإمساك بالأكثرية الحكومية، وفقاً للتوازنات في مجلس النواب وانسجاماً مع توازن القوى في الشارع وعملاً بتجارب الحكم عموماً.
ورحلة الغدر إياها لهذا الفريق تكتمل فصولاً عندما يتعرض الوطن لعدوان إسرائيلي واسع النطاق في تموز عام 2006، تدعمه واشنطن وتقدم التغطية له بعض الأنظمة، إذ سرعان ما يتصرف هذا الفريق على أساس أنه غير معني بالعدوان، وبمعنى آخر تخلى هذا الفريق عن شركائه في الوطن تحت ذريعة أن العدوان الإسرائيلي يستهدف فريقاً بعينه، ويريد تصفية حساباته مع شريحة لبنانية دون أخرى، فكان البيان الشهير لمجلس الوزراء الذي انعقد في بدايات العدوان، والذي اعتبر أن لا علاقة له بما يجري. وكانت ثالثة الأثافي في استقبال وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس وسواها من موفدي الادارة الاميركية.
ولأن المقام لا يسمح بتعداد أبعاد هذه الشعارات، فالخلاصة أن هذا الفريق استكمل غدره بالشريك في الوطن عندما طالب المقاومة جهاراً نهاراً بتسليم سلاحها والتخلي عن جسمها المقاوم، في حين كانت آلة القتل الاسرائيلية ما زالت تعمل عملها في جسد الوطن الجريح.
والأكثر من ذلك أنه فيما كان العدو الاسرائيلي يصرخ جريحاً من آثار هزيمته النكراء على يد المقاومين، كان هذا الفريق يبحث عن مناسبة يتحدث فيها عن "الهزيمة"، ليقلل فيها في أحسن الحالات من قيمة النصر الإلهي الذي تحقق خلال 33 يوماً من العدوان الاسرائيلي الذي شهد القاصي والداني بأنه أشرس عدوان.
وعندما سقط الوطن في أزمة وطنية جديدة بعد العدوان الإسرائيلي، وانتقلت الأزمة من أروقة المؤسسات إلى الشارع، تعامل هذا الفريق مع هذه الأزمة وتجاهل خطورتها، من خلال زعمه أن ثمة "حركة عصيان" تقوم بها مجموعة صغيرة، وراحت تستغل كل ما ابتكره العقل البشري اللئيم من عصبيات مذهبية وغرائز طائفية لتدفع بها عن حكومة السرايا المحاصرة بهتافات أكثر من مليون نسمة.
وهكذا، وببساطة، فضل هذا الفريق الذي يحاضر اليوم "بالعفاف السياسي" ويكثر من الحديث زوراً عن "الطُهر السياسي" وعن عدم علاقته بأحلاف الخارج وببوارج واشنطن، ان يبقى البلد برمته غارقاً حتى أذنيه في خضم أزمة وطنية كبرى، على أن يقبل بكل المبادرات والطروحات والحلول التي تؤمن مشاركة وطنية فاعلة ومؤثرة في القرار الوطني، آثر هذا الفريق أن يملأ الفراغ قصر الرئاسة الأولى في بعبدا، وأن تبقى حكومة السنيورة بتراء مشلولة ومحاصرة، وتبقى أبواب مجلس النواب موصدة، على أن يتخلى عن استفراده بالسلطة وعن الاستئثار بها، وهو يعلم علم اليقين انه ليس حقاً من حقوقه أو مكتسباً من مكتسباته.
ولئن كان هذا الفريق يدرك تمام الإدراك أن كل ما يمارسه منذ أن بدأت المعارضة تحركها، انما هو مكابرة ورهان عقيم على الوقت وعلى التطورات الخارجية التي يمكن أن تحول دون بلوغه النهاية المحتومة له، وهي السقوط المدوي، فإن هذا الفريق إنما يحاول في هذا الوقت المستقطع وبحركته الأخيرة هذه (مؤتمر الربيع)، أن يلمع صورته، وهي الصورة التي تشوهت وصارت عنواناً للاستئثار والغدر وعدم إقامته الوزن للديمقراطية بكل أشكالها، وأن يتواصل مع ما يعتقد أنه جمهوره في أعقاب تيقنه بالدليل الملموس وخصوصاً في ذكرى 14 شباط الأخيرة، أن هذا الجمهور انفض من حوله، وهو الذي وعد نفسه بأنه سيحضر أكثر من مليون ونصف مليون نسمة إلى ساحة الشهداء، فإذا هذا الرقم يتحول إلى أقل من 120 ألف نسمة في كل الاحصاءات المعقولة.
مع كل هذا اليتم السياسي والشعبي يصر هذا الفريق على اعتبار نفسه الرقم الصعب في المعادلة، وأنه قادر على صوغ ما يسميه "عقد اجتماعي جديد" وفق رؤية يضعها للوطن حاضراً ومستقبلاً.
الواضح تماماً أن هذا الفريق يحاول من خلال حركته المتأخرة ان يعيد الاعتبار لنفسه ولرموزه المبتلين بكل أنواع العقد وأصناف النقص.
ففريق "القوات اللبنانية" يحاول جاهداً أن يظهر للعالم أن زعيمه ليس خرّيج سجون، ولم يكن يمضي عقوبة الاشغال الشاقة على سلسلة جرائم اقترفتها يداه.
والفريق الجنبلاطي يحاول أن يهدىء من هواجس زعيمه المسكونة دوماً بالمخاوف والحسابات الضيقة والمعقدة، وهو الذي بلغ به الخوف حد "توظيف" أشخاص كي يتذوقوا له الطعام قبل تناوله.
أما فريق "المستقبل" فكل مسعاه ومبتغاه أن يؤمن ديمومة الإمساك بقرار طائفة يدرك تمام الإدراك أنها لم تعد مستعدة للعيش أسيرة شعاراته وأوهامه وأحلامه التي ظنها أنها دانية القطوف، فإذا هي سراب.
أما "أيتام السياسة" من الرموز المسيحية التي أمضت عمرها تنتقل من رهان إلى آخر وتنام في حضن هذا الزعيم أو في عباءة ذلك التيار، فهي تدرك أنه لن يقوم لها اعتبار الا في أن تكون ظل الزعيم أو المبررة له أفعاله وخطاياه، وأوضح مثال على هؤلاء هم سمير فرنجية وفارس سعيّد.
وبالطبع لن يصلح مؤتمر ولقاء مهما كان شعاره مما أفسده دهر سياسة هؤلاء الخائبين الذين ظنوا أن بإمكانهم اسقاط التاريخ وعوامل الجغرافيا وإنشاء وطن.
ابراهيم صالح
الانتقاد/ العدد 1258 ـ 14 آذار/ مارس 2008