ارشيف من : 2005-2008
التدخل الأميركي في لبنان المكشوف سياسياً وأمنياً وعسكرياً
قبل ان تتمركز المدمرة الأميركية "كول" في البحر مقابل لبنان، كانت الاستخبارات الأميركية قد انتهت من تنشيط الشبكات النائمة من الجواسيس والعملاء التابعين لها في بيروت. واكثر من ذلك فقد استقدمت من الخارج منظومة ادارية مدربة على التجنيد والتنصت والتعقب وتوجيه العمليات التنفيذية، وبحسب المعلومات المتداولة لدى أجهزة أمنية لبنانية واقليمية، فقد تموضع العديد من الجواسيس تحت عناوين وهمية في شقق سكنية وفنادق مُطلة على البحر من جهة ومشرفة على الضاحية الجنوبية وبيروت. وأكدت المصادر نفسها ان "السي أي أيه" استعادت خططها القديمة، واستخرجت من أرشيف المحفوظات لديها ملفات العملاء الذين عملوا معها في لبنان خلال الثمانينات، كما أطلقت عشرات المخبرين في أوسع عمل استخباراتي أميركي في لبنان منذ منتصف الثمانينات، والثاني من نوعه بعد العراق.
هذا القرار الأميركي اتخذته واشنطن جزئياً خلال العدوان الاسرائيلي على لبنان في تموز 2006، ثم عادت وقررت تنشيط اعمالها وفصل النشاط الاستخباراتي عن العمل الدبلوماسي، وحصر مهمة السفارة الاميركية في عوكر بالاشراف والتحكم عن بُعد خشية احراجها جراء فشل بعض الخطط الأمنية، وجاء هذا القرار بعدما نجحت بعض مراكز الجيش اللبنانية المنتشرة في منطقة بعبدا في رصد سيارة أميركية تابعة للسفارة بداخلها عدد من الموظفين يتمركزون في قطعة أرض تملكها السفارة الأميركية في بعبدا ومُطلة على الضاحية الجنوبية، يقومون بتزويد الطائرات الحربية الإسرائيلية بإحداثيات عن أماكن سقوط الصواريخ.
وبحسب المعلومات فإن بعض الجهات الأمنية تعرفت الى هوية معظم الذين كانوا يقومون بالرصد والمراقبة وتسجيل وبث الاحداثيات.
وبالرغم من ان الجهات الأمنية لم تتمكن من ضبط سيارة السفارة متلبسة في بث الاحداثيات إلا ان وجودها المتكرر في المكان يؤكد ان هؤلاء يقومون بمهمة ما في المنطقة، وبحسب المصادر نفسها، وبعد هذه الحادثة، فإن الاستخبارات الأميركية قررت اعادة تنظيم وجودها الأمني في بيروت، وعدم حصر ادارة المعلومات والعمليات من السفارة الأميركية.
وتعتقد المصادر الأمنية اللبنانية ان قرار ارسال السفن الحربية الأميركية الى الشواطئ اللبنانية انتظر عدة أشهر لتنفيذه ريثما تمكنت "السي أي أيه" من تركيب منظومتها الأمنية على الأرض التي ستتولى توجيه عمليات البحر من البر، وتسارعت وتيرة التحضيرات اثر مشاركة خبراء من مكتب التحقيقات الأميركي في مسح المناطق المستهدفة بالتفجيرات، وبلغت مراحل متقدمة بعد الانفجار الذي استهدف احدى السيارة التابعة للسفارة في كانون الثاني/ يناير 2008 وباتت المنظمة الأمنية جاهزة للعمل مع وصول المدمرة كول التي اختبرت انظمتها خطوط الاتصال وأجرت مناورة تكللت بالنجاح فيما يتعلق بالتوجيه عن بعد والتدخل الميداني عند الضرورة.
وبحسب المعلومات أيضاً فإن وكالة الاستخبارات الأميركية استقدمت مجموعة من العملاء، وجندت جيشاً من المخبرين والجواسيس للأعمال السرية، وهؤلاء لا علاقة لهم من حيث الادارة والتوجيه بالفرق الأمنية الأميركية التي تعمل بالتنسيق مع أجهزة الدولة الأمنية تحت عنوان المساعدة في التحقيقات الجارية في عمليات التفجير والاغتيالات التي تلت استشهاد الرئيس رفيق الحريري، لأنها باتت مكشوفة ومعروفة، ويمكن تعقبها بسهولة، هذا فضلاً عن انها تابعة اداريا للسفارة الأميركية في عوكر.
ويبدو ان الاستخبارات الأميركية قررت ان تتولى من البحر ادارة أعمالها الاستخباراتية من البحر، وذلك كجزء من دروس استخلاص العبر من الأعمال السابقة في لبنان، بعدما انكشف المركز الرئيسي لـ"السي اي ايه" عام 1983 الذي كان يقوم ببث الاحداثيات وارسال المعلومات من بناية في عين المريسة الى المدمرة الأميركية نيوجرسي في الأفق اللبناني، وكنتيجة طبيعية بعد هذا الانكشاف تمت مهاجمة المبنى وتدميره بالكامل ما أدى الى مقتل عدد كبير من العملاء.
ولضمان نتائج أفضل قررت واشنطن سحب المدمرة "كول" لانها عديمة التجربة والخبرة في الاعمال الحربية، بسبب خبرتها في اعمال الدورية والمراقبة، واستبدلتها بالمدمرة "يو اس اس فلبين سي" الذي سبق لها ان شاركت في انشطة استخباراتية رفيعة المستوى، ولا سيما في الحرب الأميركية على الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش عام 1999، وقد لعبت المدمرة "فلبين" دوراً محورياً في ادارة الجواسيس على الأرض، وحققت صواريخها من نوع "توما هوك ـ كروز" اصابات دقيقة ساهمت في زعزعة حكم الرئيس الصربي، ومكنت المعارضة من السيطرة على السلطة.
من هنا تتخوف شخصيات لبنانية من أجندة أميركية مقبلة تستهدف ضرب المعارضة في لبنان واضعاف أو اسقاط النظام السوري، أو التعرض للرئيس بشار الأسد شخصياً، فالوجود العسكري الأميركي مرتبط بالمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة وبالمواقف السياسية أيضاً، والقلة من اللبنانيين الذين يحسنون قراءة السياسة الأميركية في لبنان والمنطقة يؤكدون ان الادارة الأميركية تتخوف من قدرة المعارضة على جر لبنان الى التحالف الايراني السوري في المنطقة، وهي لن تسمح بتكرار تجربة المقاومة الفلسطينية التي أحكمت الطوق على لبنان ومنعته من الانزلاق نحو كمب ديفيد ثانية.
وتتذكر شخصية لبنانية تربطها علاقة مع الاميركيين محطات من التدخل الأميركي في الحياة السياسية اللبنانية، عندما أقنع المندوب الأميركي روبرت مورفي الزعامات في بيروت بالتوافق على قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، خلفاً للرئيس كميل شمعون، وانتج مورفي هذا التوافق في وقت كانت فيه قوات المارينز ترابط في مطار بيروت الدولي، ولم تغادره إلا بعد جلوس شهاب على كرسي الرئاسة وبطلب منه شخصياً.
وبعد سنوات حكم شهاب، رفضت واشنطن التجديد له لأنه لم يقم بواجبه في محاربة المد الناصري، وتزعم التيار المناهض للتجديد المندوب الأميركي ارمين ماير، وفي انتخابات 1976 جاء دين براون للمشاركة في اختيار رئيس للبنان بين مرشحين اثنين، هما ريمون ادة والياس سركيس، في تلك المرحلة رفضت واشنطن لاعتبارات اقليمية طلب اده المتحالف مع كمال جنبلاط تدخلا عسكريا اميركيا أو دوليا عن طريق الامم المتحدة لوقف المد الفلسطيني المسلح، ووافق على سركيس رئيساً بشرط استدعاء الجيش السوري لحفظ التوازن في لبنان.
وكرت سبحة الأسماء الأميركية التي ارتبط اسمها بالتدخل الأميركي في الاستحقاقات اللبنانية المصيرية:
السفير: ريتشارد باركر (1977 ـ 1978) وجون غونتر دين (1978 ـ 1981) وروبرت ديلون (1981 ـ 1983). واستطاع الثاني من خلال علاقة وثيقة توطدت مع قائد ميليشيا القوات اللبنانية، اشعال "حرب زحلة" ضد الجيش السوري عام 1981. وهي حرب دخلتها "اسرائيل" بالتحالف مع بشير الجميل، وخاضتها سوريا دفاعاً عن وجودها، وهي الحرب نفسها التي مهدت لاجتياح اسرائيلي كبير عام 1982، وعرفت اللبنانيين الى المندوب الاميركي ريتشارد مورفي، وهذا الاجتياح نفسه أوصل بشير الجميل الى رئاسة الجمهورية بدعم أميركي واسرائيلي.
بعد اغتيال بشير الجميل وانتخاب شقيقه امين توثقت العلاقات الأميركية مع الرئيس الجديد فاجتمع الرئيس الاميركي رونالد ريغان بأمين الجميل في ثلاث قمم خلال 14 شهراً، بين تشرين الأول 1982 وكانون الأول 1983. لكنه أخفق في جر لبنان الى اتفاقية "سلام" مع "إسرائيل". وبسبب هذا الاخفاق خرجت المارينز عام 1983 من بيروت ذليلة، وعاد الجيش السوري الى الجبل وبيروت لاحقاً، وانطلقت المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي. وخلال هذه الفترة لعب السفيران الأميركي ريجينالد بارثولوميو (1983 ـ 1986) دوراً مهماً في التدخل الأميركي الاستخباراتي والسياسي. وخلفه السفير جون كيلي (1986 ـ 1988). وبرز في العام 1987 اسماء مثل "إبريل غلاسبي" مديرة دائرة لبنان وسوريا والأردن في الخارجية الأميركية وريتشارد مورفي مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، وكان للأخير تأثير كبير في تقرير مصير لبنان، وهو صاحب العبارة المشهورة: "مخايل الضاهر أو الفوضى".
ولعل تدخل السفير الأميركي الأخير جيفري فيلتمان في الشؤون اللبنانية ليس بعيداً، وذاكرة اللبنانيين لا تزال حية، لجهة تحريض فريق لبناني ضد آخر، ووقوفه الشرس في وجه المقاومة وتحمسه اللامحدود للقرار الدولي 1559، وسبقه منذ توقيع اتفاق الطائف مجموعة من السفراء كان لهم تأثير ضعيف باستثناء التحريض الذي مارسه السفير الأميركي جون مكارثي ضد الجنرال ميشال عون الذي شكل حكومة عسكرية بعد انتهاء ولاية الجميل وتمركز في قصر بعبدا، وكنتيجة لهذا التحريض اندلعت الحرب المسيحية ـ المسيحية.
المشهد الأميركي اليوم:
سفن أميركية مرابطة مقابل بيروت التي تشهد أزمة لا سابق لها في اختيار وانتخاب رئيس الجمهورية، وخلافات على الحكم والدور الاقليمي للبنان.
واشنطن منحازة الى فريق أسندت اليه فعل ثورة الأرز، وترى فيه صورة مصغرة عن الديمقراطية الغربية، ويمكن ان يلعب دوراً في المشروع الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط الذي لا يزال يعاني من وجع المخاض المستمر منذ تموز 2008.
لم تعلن الادارة الأميركية عن نواياها لكن مواقفها وافعالها تفصح عن الكثير.
قاسم متيرك
الانتقاد/ العدد 1258 ـ 14 آذار/ مارس 2008