ارشيف من : 2005-2008
إضاءات بانورامية على المحطات الفضائية
وأصبح للتلفزيون نقاد، وتحولت الشاشة إلى مرآة لشتى عناوين الحياة، كذلك دخل التلفزيون في لعبة آخر موضة أو آخر تقليعة، فكان هو بذاته مروّجاً لأفكار وكذلك مروّجاً لنفسه في آن، إنها الشاشة، التي تخطت كونها ضيفة دائمة علينا، لنكون نحن الضيوف عليها، وهي الشهرزاد التي تعرف كيف تبتدع لنا قصة كل يوم لتمد في عمرها.
هنا في هذه المقالة محاولة لرصد انتقائي أشبه ما يكون بفن الكولاج ـ الإلصاق، فقد تكون ملاحظاتنا على الشكل في مكان وعلى المضمون في مكان آخر.
صناعة الخبر يدوياً!
برغم تسارع الأحداث في لبنان، بل وتشعبها وانعكاسها على المنطقة والعالم، إلا أن لهذا البلد المقدرة المذهلة على الهضم السريع وقلب الصفحات. حتى من دون التفاتة إلى الخلف.
من هنا يشعر المشاهد حالياً بكثير من الملل أثناء متابعته نشرات الأخبار، وحتى مقدماتها التحفيزية، التحليلية، التي لا تخلو من بعض التحريض والحث والغمز واللمز والايحاء والايماء..
في هكذا جو سياسي "مستقر" لا يمكن لنشرات الأخبار أن تستمر، علماً أن كل البرامج قابلة للتوقف والتأجيل والتعديل، إلا نشرات الأخبار التي تحولت إلى عمود الخيمة في محطاتنا اللبنانية.
من هنا لا يمكن لنشرة الأخبار أن تسلّم وترفع العشرة بعد أن تقر بهزيمتها، ولا بد من اجتراح أساليب ناجعة للمحافظة على مبرر وجودها، وهكذا كان.
لا شك في أن المتابع لأخبارنا اللبنانية قد لاحظ أن نشرات كثيرة تبدأ عناوينها بمواقف لشخصية سياسية تم "انتزاعها" حصراً من خلال حوارات يجريها المراسلون مع تلك الشخصيات. وهكذا يصبح الحدث صنيعة مديرية الأخبار التي هي في العادة متلقية له.
أما الأسلوب الآخر فهو التركيز على التحقيقات الخاصة التي من المفترض أن تكون ذات طابع حدثي يتواءم ونكهة نشرة الأخبار الحديثة، إلا أن استنفاد العناوين الحديثة في التحقيقات اليومية المتسارعة تؤدي في أحيان كثيرة إلى ابتداع تحقيق أشبه ما يكون بأطعمة المونة كالدبس والحلاوة والزيت والكبيس والمربى، فهي لا تعتبر شديدة الوقع بقدر ما تمتلك عناصر قوتها من خلال مقدرتها على الحياة من عام لآخر.
تنحّي الخبر العاجل
بعد نجومية باهرة ونجاح متوقد وحضور آسر، ها هو الخبر العاجل يتنحّى عن صهوة جاذبيته وسحره، لمصلحة الأخبار العادية التي يمكن انتظارها حتى نشرة الأخبار، فمثلاً أصبح وصول عمرو موسى إلى بيروت خبراً عاجلاً برغم أن موعد حضوره معلن مسبقاً، ثم وما إن تطأ قدماه الأراضي اللبنانية ويبدأ بزيارة المسؤولين حتى تتوالى الأخبار العاجلة "موسى يجتمع ببري".. الأرجح أن خدمة الخبر العاجل التي تقوم بها بعض المحطات والوكالات، قد ساهمت في ضمور هيبة هذا العاجل الذي تعودنا عليه باللون الأحمر الفاقع.
ففي خدمة الخبر العاجل تلك لا يمكن انتظار انفجار ضخم واستقالة حكومة وانشقاق حزب وموقف تاريخي، لذلك تصبح الأخبار العاجلة على منوال: وصل، استقبل، أعلن، شجب، غادر، حذّر، أثنى، عقّب، ردّ، هدد.
الضيف الدائم
مع تسليمنا بمقدرة الأحزاب والتيارات والكتل على تخريج دفعات دائمة من المنظّرين السياسيين، إلا أن قلة قليلة منهم عرفت كيف تقبض على اهتمام المشاهد وتشتري اهتمامه، ولأن هذه القلة قليلة، كان لا بد للمحطات من تكثيف استضافة هؤلاء الأحصنة الرابحة، بحيث أصبحنا نشاهد ذات الشخصية في اليوم ذاته على ثلاث محطات، والمدهش هو مقدرة تلك الشخصية على استنباط عبارات جديدة وبرّاقة، من دون الوقوع في فخ التكرار.
أما الطامة الكبرى فتكمن في محاولة بعض البرامج السياسية اكتشاف "مواهب" جديدة فتستضيف وعلى سبيل التجربة محللا سياسيا من الصحافة المكتوبة، وغالباً ما تكون مقالاته رنانة ذات وقع شعبي، لكن صاحبنا وما إن تضاء الكاميرات عليه حتى يبدأ بالغرق في رمال الشاشة المتحركة، فهنا يشطح بالمواضيع وهناك يجتزئ من العناوين، وبينهما الكثير من الصراخ والشتائم أو الصمت وهزّ الرأس.
للتجارب تلك ايجابيات كثيرة، لكن مشكلتها تكمن في كونها تجارب على الهواء، ونحن الجمهور المشاهد ضحاياها الأُول.
"عربية" محلية
في واحدة من المشاهد السوريالية التي أنتجتها الأزمة اللبنانية، نلاحظ أن بعض الفضائيات "العربية" قد تخلت عن جلّ مشاكل الكوكب البيضاوي، لتتحول "بقدرة قادر" إلى قناة محلية لبنانية، تغطي في أحيان كثيرة أخبار الأزقة وإشكالات الصور ومواقف سياسيين من الدرجة الرابعة، بل أكثر من ذلك تحولت المحطات تلك إلى أدوات فتنة وإطلاق الشائعات ودخلت كطرف في المشهد اللبناني المنقسم.
عموماً يبقى المشهد التلفزيوني متشعباً، تحديداً في تجلياته السياسية، لا سيما في ملامحه اللبنانية، حيث المرونة المدهشة في تلقي الأزمات وتصديرها، ولعل هناك أفضل من الشاشة لتكون مسرحاً للأحداث؟
عبد الحليم حمود
الانتقاد/ العدد 1258 ـ 14 آذار/ مارس 2008