ارشيف من : 2005-2008
الحياة القصيرة(*)
كانت تقود سيارتها على غير هدى تتنازعها أفكار شتى.. فمنذ ساعتين غادرت عيادة الطبيب، حاولت أن تبدو متماسكة وقوية أمامه، وربما نجحت في ذلك، ولكنها ليست بمستوى هذا الادعاء:
- "لقد عاد إلى الظهور".
هذا ما قاله، أو بالأحرى هذا ملخص ما قاله، إذ قال أشياء كثيرة أخرى لم تهتم لها:
"لقد عاد إلى الظهور"، لا تزال هذه العبارة تدور في رأسها منذ غادرت العيادة.
منذ سبع سنين مرت بهذا الوضع، يوم أخبرها الطبيب نفسه بأن الورم الذي ظهر في ثديها الأيسر ليس بحميد، كانت لا تزال عزباء، صعُب عليها الأمر، تساءلت يومها:
- ماذا لو لم أنجُ؟! "سأغادر هذه الحياة دون أن يبقى لي أثر".
وتذكرت صديقة لها كانت قد قضت في حادث مروع، كانت الصديقة أماً لثلاثة أولاد، قالت يوم حصل ذلك والحزن غض رطب:
- سيكون لندى من يذكرها ولن ينساها: أبناؤها الثلاثة، يقرأون لروحها الفاتحة ويتصدقون عنها، ويذكرونها في سهراتهم مع أولادهم، وربما مع أحفادهم.
أما إذا ما غادرت أنا، نعم قد يذكرني الأهل والإخوة والأصدقاء، ولكن إلى حين، وبعدها سأغرق في النسيان.
لماذا تجد هذا الكلام الآن غير منطقي وغير منصف: لقد شفيت من الإصابة الأولى.
بعد أن خضعت لعملية استئصال وعاشت حياة طبيعية طيلة السنوات السبع الماضية، تزوجت وأنجبت، نعم أنجبت نور قرّة عينها، والمعنى الأهم لحياتها، نور الآن في السنة الرابعة من عمرها وقد بدأت للتو سنتها الدراسية الأولى والمشوار طويل، هي الآن تقدّر جيدا كم هو صعب أن يعيش طفل من دون أم، مؤكد أن أبناء صديقتها قد عانوا الكثير، لا سيما الصغرى التي كانت بعمر نور يوم فقدت أمها.
هل ستنجو هذه المرة؟ راودها هذا السؤال، لا تستطيع أن تكون متفائلة كثيرا، فظهور المرض من جديد ولو بشكل جديد وفي مكان آخر من جسدها النحيل يرعبها! هي مؤمنة برحمة الله وراضية بقضائه، وخوفها لا يتناقض مع هذا الإيمان.. هذه الفكرة لم تغب عن ذهنها، فتوسلها بالله ودعاء المقربين منها ووقوف من أصبح زوجها إلى جانبها ساعد في تخطيها الإصابة السابقة، ولكن ماذا الآن؟ هل سينجح الأمر مرة أخرى؟ لاحت لها من جديد صورة نور فانتابتها نوبة بكاء حادة، أوقفت سيارتها جانبا واستسلمت لها، بكت حتى أُنهكت، رفعت وجهها نحو السماء وقالت بحرقة الملهوف:
- يا ربّ، لا حول ولا قوة إلا بك، تراني وتعلم حالي، أنا وابنتي بين يديك، مالي سواك منقذا ولطيفا، فالطف بي يا كريم.
وبينما كانت عيناها شاخصتين نحو السماء فاجأها جسم صغير حط على مقدمة السيارة، عصفورة تحمل في فمها حبة عنب، حطت قليلا ثم عاودت الطيران، لحقت بها عيناها حتى توارت عن نظرها.
شغلها المنظر لحظات كانت كافية لتخرجها من حالة إلى أخرى:
- غريبة هي الحياة: سبحان من ألهم هذه العصفورة، تطير غير مبالية بالأخطار التي قد تتعرض لها، وتنطلق بأمل الوصول إلى فراخها بزادها المتواضع. وقصيرة هي الحياة، تمر على حين غفلة منا وتضعنا أمام مصير محتوم لم تكن لنا فرصة قبوله أو رفضه، لهذا لن أبدد هذه الحياة القصيرة بالبكاء، فهناك الكثير مما يمكن القيام به.
أدارت محرك السيارة وقفلت عائدة إلى البيت.
سلوى صعب
1 ـ الحياة القصيرة (سلوى صعب) من مجموعة قصصية تصدر قريباً للكاتبة.
الانتقاد/ العدد 1258 ـ 14 آذار/ مارس 2008