ارشيف من : 2005-2008

رشى المسؤولين الأمنيين سمحت بتوسيع مخالفات البناء

رشى المسؤولين الأمنيين سمحت بتوسيع مخالفات البناء

بعد أن نجا مع أسرته من العدوان الصهيوني الذي استهدف مجمع الإمام الحسن (ع) في الرويس، ما دفع العائلة بعد أن دُمر مسكنها هناك للجوء إلى الأقارب للسكن لديهم في الرمل العالي، ريثما يُعاد بناء ما دمره العدوان الصهيوني. وبالتالي لم يكن لحسن وأسرته "ناقة ولا جمل" بمخالفات البناء التي جاءت القوى الأمنية لتزيلها باستخدام الرصاص الحي بعد أن كانت قبضت الرشى الطائلة عليها من الأهالي وتغاضت عن ورش البناء أكثر من شهرين! كذلك لم يكن الطفل محمد حسين علي ناجي يدرك المصير الذي سينتهي اليه عندما كان موجوداً بين الجموع المحتشدة من الأهالي في منطقة الرمل العالي وبراءة الطفولة على وجهه وضحكاته على ثغره بدت على شاشة محطة NTV قبل يوم من الحادث المشؤوم. لم يكن هذا الطفل يدرك أن الهيبة المهدورة في ثكنة مرجعيون يُراد ان تستعاد برصاصات تخترق رأسه وترقده يومين في غيبوبة في المستشفى قبل أن يُسلم روحه إلى بارئها، وهو الذي قال عنه والده إنه كان يجهزه ليكون جندياً من جنود المقاومة.‏‏

قضية البناء في منطقة الرمل العالي بدأت خلال العدوان الصهيوني وتوسعت مع انتهائه على مرأى ومسمع من الأجهزة الأمنية الرسمية للدولة المعنية بتلك المنطقة. كانت دوريات قوى الأمن الداخلي تصل إلى هناك وتبتز الأهالي، فيدفعون للضباط الرشى الطائلة ليقفلوا عائدين من حيث أتوا، وهكذا كان المشهد يتكرر في كل يوم وتتوسع الورش وتكثر الرشى إلى أن استفاقت الحكومة على الأمر بعد مراسلات عدة من قبل بلدية برج البراجنة.‏‏

طُرح الأمر على إحدى جلسات مجلس الوزراء قبل أسابيع، وسُئل وزراء حزب الله وحركة أمل عن الموضوع، فجاء الجواب حاسماً وحازماً بأننا لا نغطي أي مخالفة وعلى الدولة القيام بمسؤولياتها، لكن شيئاً عملياً لم يحصل حتى تاريخ الخامس من تشرين الحالي حيث انتشر على طريق المطار في ذلك اليوم مئات العناصر من قوى الأمن الداخلي مزودة بتعليمات بإزالة المخالفات، مرّ ذلك اليوم بسلام حيث تجمع الاهالي وشكوا حينها بالقول: لماذا لم تبادر الدولة إلى وقف البناء منذ البداية؟ البعض استدان من البنوك والبعض حصل على غطاء بعد دفع الرشى الى مسؤولين أمنيين.‏‏

كان ذلك يوم الخميس، وفي اليوم الذي تلاه حصل ما لم يكن بالحسبان، قوى الأمن الداخلي تطلق الرصاص الحي على الجموع التي احتشدت من الأهالي في الرمل العالي، يُستشهد الفتى حسن لطفي سويد في اليوم نفسه بعد اصابته برصاصات قاتلة في أنحاء عدة من جسده، وبعده بيومين الطفل محمد ناجي الذي أصيب أيضاً في رأسه.‏‏

حصلت حال غليان شعبية وعلى صعيد القوى السياسية أيضاً، وأثيرت عدة أسئلة: لماذا الرصاص الحي على الأطفال في الرمل العالي؟ ألا يوجد خراطيم مياه؟ أين القنابل المسيلة للدموع؟ أين الهراوات؟ لماذا مكتوب على أبناء الضاحية الجنوبية أن يدفعوا دماءً دائماً في مثل هذه الحالات؟‏‏

أسئلة بقيت دون اجابات، بل على العكس ازدادت الهواجس مع محاولة التملص من المسؤولية عبر "البلاغ" الذي صدر عن وزارة الداخلية التي زعمت من خلاله أن الرصاص ليس لقوى الأمن الداخلي وهو متفجر، وأن من أطلق النار مجهول، وأنه لا يكون من الأهالي الذين كانوا هناك، وأن اطلاق النار كان عن مسافة قريبة جداً.. ونسبت بعض هذه المزاعم إلى الطبيب الشرعي الذي عاين جثة الضحية حسن سويد، لكن الحقيقة بدأت تظهر مباشرة بعد هذا البلاغ، حيث كذب الطبيب الشرعي ما نُسب اليه في هذا البلاغ من أن الرصاص غير مستخدم لدى قوى الأمن الداخلي.. وازدادت الحقيقة وضوحاً مع الكشف الشرعي على جثة الطفل محمد ناجي، حيث أكد التقرير الذي أعده الطبيب الشرعي حسين شحرور أن الرصاص الذي أصيب به ليس متفجراً، وأن الرصاص لم يطلق من مسافة مترين كما زعم بلاغ وزارة الداخية، انما من مسافة بعيدة.‏‏

عند هذا الحد كانت رواية وزارة الداخلية تتساقط كما غيرها من الروايات والتحقيقات في قضايا أخرى، وفي محاولة لاستيعاب التداعيات سارع رئيس الحكومة فؤاد السنيورة إلى الاعلان عن عقد اجتماع أمني برئاسته في السراي الكبير الاثنين الماضي يضم وزراء حزب الله وحركة أمل، وذلك في محاولة لإدخالهم طرفاً في هذا الموضوع وللتغطية على فضيحة الأجهزة الأمنية.. وزير الطاقة محمد فنيش أعلن موقفاً واضحاً: "لسنا معنيين بهذا الاجتماع الأمني ولن نحضره، ودعا الدولة إلى تحمل مسؤولياتها والقيام بواجباتها، أولاً من خلال إجراء تحقيق شفاف حول إطلاق النار على المواطنين من قبل قوى الأمن الداخلي ومحاسبة المسؤولين، وثانياً إجراء تحقيق حول الرشى التي قبضها المسؤولون الأمنيون من الأهالي للتغاضي عن مخالفات البناء، وبالتالي السماح بها منذ البداية".‏‏

بعد هذا الموقف أُلغي الاجتماع الأمني في السراي وعقد اجتماع وزاري بعد جلسة مجلس الوزراء التي كانت مخصصة للملف الصحي، واستدعي إلى هذا الاجتماع الوزاري مدير عام قوى الأمن الداخلي أشرف ريفي الذي تحدث عن استمرار التحقيقات. وجرى الاتفاق خلال هذه الجلسة على ضرورة استكمال التحقيقات ومحاسبة المسؤولين عما جرى وإيجاد آلية لمعالجة الأوضاع في منطقة الرمل العالي.‏‏

في اليوم التالي ترأس وزير الداخلية بالوكالة أحمد فتفت اجتماعاً أمنياً لمعالجة موضوع المخالفات بحضور مدير عام قوى الأمن الداخلي أشرف ريفي ومحافظ جبل لبنان انطوان سليمان ورؤساء بلديات برج البراجنة وحارة حريك والغبيري، وجرى الاتفاق على اجراء تحقيق مسلكي في التهاون الذي أدى إلى تطور المخالفات. وفي موضوع اطلاق النار بات الأمر في عهدة القضاء العسكري للتحقيق توصلاً إلى جلاء الحقيقة وتحديد المسؤوليات.‏‏

وفي موضوع المخالفات أكد الجميع تطبيق القوانين المرعية الإجراء ووقف المخالفات وإزالة التعديات، وسيتم ذلك عبر تفعيل مؤازرة القوى الأمنية للبلديات. وقد شُكلت لجنة تنسيق برئاسة محافظ جبل لبنان انطوان سليمان لهذه الغاية.‏‏

يبقى السؤال: هل ستصل التحقيقات التي أعلن عنها حول اطلاق الرصاص على الأطفال ورشى المسؤولين الأمنيين إلى نتيجة واضحة، ويحاسب المسؤولون مهما علا شأنهم الأمني والسياسي، أم أنها ستذهب أدراج الرياح كما هي الحال مع العديد من التحقيقات في ظروف مشابهة؟! مع العلم بأنه في مثل هذه الحالات في البلدان التي تحترم نفسها يستقيل وزراء وتسقط حكومات.. لكننا في لبنان!‏‏

هلال السلمان‏‏

الانتقاد/ العدد1184 ـ 13 تشرين الاول/ اكتوبر2006‏‏

2006-12-13