ارشيف من : 2005-2008
لـو حـدث الانفجـار بتأخيـر نصـف ساعـة «لكانـت مجـزرة» ..«الآدمـي» فرنسـوا الحـاج يـودّع بعبـدا... قبـل «التتويـج»
عيان. ثماني دقائق تمرّ، تستيقظ ميرنا على زجاج ينهمر عليها وهي ما زالت في سريرها، «دخان ثم نار ثم دوي انفجار...». لم تعرف هي او اهلها صوب اي جهة يركضون، واذ بنظرها يقع على سيارات محترقة و«ربما جثث؟ لم اعد اعرف، كنت مشتتة الذهن». عشر دقائق بعدها ويملا المكان عناصر من الجيش والصليب الاحمر والدفاع المدني. لم يعلم السكان المحيطون ببلدية بعبدا وسراياها هل كان انفجار، من «تلك الانفجارات التي تطال المناطق المسيحية، ام انه انفجار يستهدف احدى الشخصيات؟» كما يروي طوني العلم وهو من سكان المنطقة. سالوا وما من جواب. من نوافذهم «تنفسوا» رائحة الدخان وشاهدوا صورا بعيدة، قرّبتها لهم عدسات الكاميرات، وقد التقطتها من خلال طوق محكم من قبل الجيش لمكان الانفجار... بل لمكان الاغتيال.
هناك قرب بلدية بعبدا، انتهت مسيرة مدير العمليات العسكرية في الجيش اللبناني العميد فرنسوا الحاج. اغتيل في وقت دقيق بالنسبة للبلد وله. البس ثوب الشهادة، بعد ان قاد معارك نهر البارد ولم ينفض غبارها عنه بعد. خلع بذلة المعركة. كاد ان يرتدي بذلة القيادة. لكنّ يد الغدر ارادت له ان يترك معارك الوطن، شهيدا، ملفوفا بالعلم اللبناني.
يشبه مكان الاغتيال، المكان الذي استشهد فيه الزميل النائب جبران تويني (وتصادف الحادثة، الذكرى الثانية لاغتياله)، كما المكان الذي نجا فيه وزير الدفاع الياس المرّ من محاولة اغتياله. هناك قبل بلدية بعبدا، حيث يضيق الطريق، انفجرت السيارة الزيتية وقذفت سيارة العميد، وهي «جي.ام. سي « رباعية الدفع، الى منحدر على مقربة من الجسر الذي قصفته إسرائيل ولم يرمّم بعد. هذه المرة وصل الجيش والصليب الاحمر قبل الإعلام بأذرعه، وقد حوصر في مكان واحد، يفصله شريط اصفر عشرات الأمتار عن مكان الاغتيال. عناصر الجيش ملأت المكان، لا بل كل ما للدولة من اجهزة. امام الشريط زرعت الكاميرات محاولة اتخاذ ما يسمح لها بالتقاط صور. يقفز أمامها بين الحين والآخر مراسل او مراسلة من هذه المحطة او تلك. والجميع يقدّم المعلومات نفسها، يلتقطونها من هنا ومن هناك. فيما تستوجب اي معلومة قادمة من خلف الشريط الاصفر قطع الإرسال لبثّها. «يد الغدر»، «يد الإجرام»، «عبوة ناسفة»، «سيارة مفخخة»، «جثث»، «جرحى وقتلى»، «اضرار مادية».... كلمات تتطاير في الأجواء، على ألسنة باتت ترددها كمن يتلو الفاتحة او الابانا. لكنّ الجسم الإعلامي هناك، كان متحمّسا لما هو اكثر من المعلومات والصور التي ينقلها من مكان الحادث.
الحادثة وان كانت تشبه الاغتيالات السابقة في الشكل، هي لا تشبهها في المضمون. ذاك لان الشخصية المستهدفة عسكرية، لا بل انها تعتبر الشخصية العسكرية الاولى بعد قائد الجيش مباشرة. ثم ان اسم الحاج كان من بين الاسماء المطروحة لتولي قيادة الجيش، وهي الاولى، من مسلسل الاغتيالات، غير المحسوبة على قوى 14 آذار.
خلف المراسلين وعدّتهم، تجمهر عدد من ابناء المنطقة، وعدد من طلاب المدارس المجاورة مع حقائبهم، ينظرون الى مكان الحدث من دون اي تعليق.
بين الناس يغيب الكلام في السياسة، فـ«ابن المنطقة» كما يطلقون عليه (ابن رميش) وهو من سكانها منذ زمن «وآدمي أكثر من الآدمية». ولعلّ استشهاده يجعل من المعيب بمكان الحديث في السياسة وتقاذف الشتائم والاتهامات، كما صرخ أحدهم، حين انفجر سجال بين امراة قواتية وشاب عوني.
حادثة تكررت بين شباب، حملهم سجالهم إلى شاحنات الجيش بعد تشابك بالأيدي.
بعبدا التي هزّها الانفجار، وهي منطقة أمنية بامتياز، صدمها موت العميد الحاج. والجولة في الأحياء المحيطة بمكان الحادث ترسم صورة وجوه متجهّمة بينما تلتقط أجزاء الزجاج المتناثرة في الشوارع وعلى الشرفات. وبين الحين والآخر كلمة «حمدلله على السلامة» او «ما بدن رجال بهالبلد».
بالنسبة لأحلام داغر «يكفي ان يكون عميد وبزيادة، حتى نبكيه». احلام تسكن احد المباني المشرفة على مكان الحادث، وقد استيقظت والزجاج ينهمر عليها، «شعرت بهزة ثم دوّى الصوت. رأيت سيارة في «البورة» واخرى امام البلدية، ثم حضر الجيش والصليب الأحمر بعد عشر دقائق ورأيتهم ينتشلون جثة تحت الزيتونة بالقرب من الطريق».
خلف سلسلة المباني المشرفة على الحادث، يحاول رجل مسّن عبور الشريط الاصفر للاطمئنان على شقيقه، «اعرف انه هناك، يقول، ولكن لم اره لأطئمن عليه وممنوع العبور الى الناحية الاخرى. في اي بلد يمنع المواطن من الاطئمنان على شقيقه؟» كان ذاك الرجل يحلّ الكلمات المتقاطعة حين لاحظ مشهد الدخان الذي تبعه دوي الانفجار مباشرة «صرت بحجم دجاجة، خوفاً من أن أصاب بفعل الشظايا المتناثرة من الأبواب والشبابيك. أنا رأيي ان يدخل قائد الجيش قصر بعبدا. شاء من شاء وأبى من أبى».
روتين المشهد، ما بعد الانفجار، الذي استمرّ لساعات كسرته حادثتان: الاولى اصطحاب احد عناصر الجيش لرجل ملتح يرتدي معطفا رماديا، وجهه لا يدلّ على اي انفعال، وقد تمّ ادخاله الى حيث وقع الانفجار ومن ثم الى جهة غير محددة. والثانية حين تجمهر عدد من الناس لسماع رواية احد رجال شرطة البلدية كشاهد عيان ابرز وقد وصف لهم كيف سمع صوت رجل ينادي «ساعدوني، ساعدوني» الى جنبه زوجته وتبدو مصابة فيما السيارة التي خلفه وهي من نوع «مرسيدس» بدأت تحترق. «شيء ما انفجر في تلك السيارة بسبب الحريق، فحاولنا إبعاد سيارة الرجل عنها كي لا تحترق، انتشلنا الرجل وتكفّل الدفاع المدني بانتشال الزوجة»، يقول الشرطي وهو يضيف ان جثث القتلى وهي تعود إلى الحاج ومرافقه و«ربما عسكري ثالث» قد دفعتها قوة الانفجار الى خارج السيارة، «حيث ارتطمت جثثهم بحائط ليقعوا أشلاء على الارض».
اللافت ان رجال شرطة البلدية، ولدى الحديث إلى أكثر من واحد منهم، كانوا يهمون بالخروج من منازلهم لدى وقوع الحادث. وقد اشار احدهم الى انه لو حدث الانفجار بتأخير نصف ساعة «لكانت مجزرة»، لان الطريق يسلكه عدد من باصات المدارس كما سكان المنطقة عموما بسبب الجسر المقصوف والزحمة على طريق رئيسي آخر.
أمام مكان الانفجار، يقف بطرس وكأنه يحاول استرجاع فكره المشتت. نجا بأعجوبة، لانه كان يقف واحد رجال شرطة البلدية يحتسون قهوتهم أمام باب البلدية، «لم اعرف كيف قذفت لأمتار الى الداخل» يقول وهو يشير الى جرح في رجله، وقد تضــررت سيــارته لحدّ خسارتها. خسارة لم تحزنه بقدر حزنه على ما عاشه لدقــائق «لا أعــرف شــيئاً لا استطيع ان استجمع أفكاري لأروي ما شاهدت». هو فقط غاضب من حظّ يمننه انه بقي على قيد الحياة، في بلد باتت الحياة فيه ضربة حظ والمـوت رصاصة خاطئة.
على طريق مرتفع يقف ميشال بدوي مراقباً. ينظر من خلال عيون دامعة محاولاً التقاط صورة من كان يقصّ له شعره لمدة خمس عشرة سنة. هو حلاق العميد. و«العميد سكّر» هذا فقط ما يقوى على قوله، وهذا ما يصعب عليه قوله. ولعلّ الطمع بالمزيد من الكلام معه، لا يجدي نفعاً فهو إن أراد الحديث لا تسعفه غصّته التي تعلق في حلقه. لكنّه يضيف بتقطع «كان خواجة. كان وابنه من زبائني. كان يحترم الدور في الصالون، ولم يكن يرضى ان يمرّ قبل أي من الزبائن».
يُذكــر أن حــادثة الاغتـيال وعلى عكــس حـوادث الاغتــيال السابقة لم تجذب السياسيــين، باسـتثناء واحـد بدأ «يدب» حديــثاً وقد وقف طويـلاً منـتظراً أحـد الصحافـيين، قبل أن يسـمع من يقول له ... «ها قد بدأ الرقـص علـى القـبور».
المصدر: صحيفة السفير اللبنانية