ارشيف من : 2005-2008
ثمانية عشر عاماً من مسيرة وطن حملت اسمه: إميل لحود المواطن والعماد والرئيس والمقاوم
رئيس استثنائي لبلد استثنائي في عصر استثنائي.. صنع الاستثناء في وقت قلب فيه الناس ظهر المجن وأداروا رؤوسهم حقداً.. ومنهم من دفنها في التراب، لا ليكونوا شهود زور على مؤامرة سلب الوطن، ولا ليفرّوا من المحاسبة على تقصيرهم وتخاذلهم، ولا لينسحبوا من موقعة عز نسبوا أنفسهم إليها طويلاً كذباً ونفاقاً.. بل لأنهم كانوا بكل بساطة جبناء تابعين، يلتقطون فتات السياسة ولا يشبعون من نهم الارتهان..
وحده إميل لحود.. المواطن وعماد الوطن ورئيسه، كان شجاعاً على قدر ما ناداه الواجب، فسبق فعلُه القولَ، وسبق فكرَه العملُ، وكان يرى في مرآته امتداد لبنان من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه.. ولم تكن ثمانية عشر عاماً من عمر لبنان في عهد فخامة المقاوم، عهد سلطة بقدر ما كانت عهد حكمة، وعهد عز وانتصار، وعرساً شارك به سيد المقاومة على منبر المقاومة في قصر المقاومة.
لحود قائداً للجيش.. ورئيساً
عيّن العماد إميل لحود قائداً للجيش اللبناني اعتباراً من 28/11/1989، وخلال تسع سنوات أمضاها قائداً للسلك العسكري عمل على إرساء ثوابت الجيش الوطني غير الفئوي، وبذلك لم يعد ذلك الجيش الذي كان يعكس التوزيع الطائفي والسياسي في لبنان. وكانت "إسرائيل" التي تحتل الأرض اللبنانية وتمارس اعتداءاتها اليومية بحق المواطنين وتهدد أمنهم وسلامتهم هي العدو، وأصبحت العقيدة التي تؤكد على مواجهة هذا العدو حاكمة في كل الدروس والدورات العسكرية، ليبني بذلك مدماكاً راسخاً في التلاحم بين الجيش والمقاومة.
وفي جلسة لمجلس النواب اللبناني عقدت بتاريخ 24/11/1998 وحضرها 124 نائباً، أقسم العماد إميل لحود اليمين الدستورية باعتباره رئيساً، وألقى كلمة أكد فيها على مجموعة من الثوابت التي ميّزت عهده وأهمها:
1. احترام دستور الدولة والقوانين. "وسأكون تحت القانون، ولا يمكن لأحد أن يكون فوق القانون".
2. قيام دولة القانون والمؤسسات في ظل النظام الديمقراطي البرلماني وعدم ارتهان السياسة للطائفية.
3. إزالة الاحتلال الاسرائيلي للأرض اللبنانية باعتبارها القضية الوطنية الكبرى.
4. لبنان وطن عربي ملتزم بميثاق جامعة الدول العربية، ويعمل دائما على تدعيم قوته بالتضامن العربي.
5. العلاقة بسوريا هي علاقة تاريخ وأرض وشعب، فلا يمكن ان تكون مراهنة او مسايرة بل مصير وخيار.
6. تلازم المسارين اللبناني والسوري في التسوية، كمصلحة وطنية عليا ثابتة ودائمة ومصيرية، على قاعدة الانسحاب الاسرائيلي الشامل من الجنوب اللبناني والبقاع الغربي والجولان وفقاً لقرارات الامم المتحدة.
لحود رئيساً لولاية ممدّدة
صادف موعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، وضعاً استثنائياً حرجاً مرت به منطقة الشرق الأوسط لم يستثن لبنان، حيث بدأت الأوضاع الداخلية تتأثر بالهزات الارتدادية التي نشأت عن غزو القوات الأميركية للعراق، وكانت سلطات الاحتلال تمعن في سياستها الإجرامية بحق الشعب الفلسطيني، في ظل بروز المشاريع القديمة ـ الجديدة لتوطين الفلسطينيين في الشتات حيث هم، فيما الوضع الدولي عاجز عن معالجة قضايا المنطقة.
واستباقاً لمخاطر قد تنجم عن تمادي النظام الأحادي الذي يفرض إرادته على العالم، شعر النواب بضرورة تمديد ولاية الرئيس لحود لمدة ثلاث سنوات تنتهي في تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 2007، وخصوصاً أن الرئيس لحود أثبت في سنوات ولايته الأولى أهليته كرئيس قادر على مواجهة التحديّات الداخلية والخارجية. واستلزم لاتمام ذلك تعديل الدستور اللبناني، وهو ما تم تطبيقه في جلسة عقدت بتاريخ 3 أيلول/ سبتمبر 2004، مع احترام آلية إجراء التعديل التي تنص على أكثرية الثلثين من مجموع أعضاء المجلس النيابي ـ وهي الآلية نفسها التي اعتمدت لتمديد ولاية الرئيس الياس الهراوي ـ وقد زادت نسبة الذين صوتوا على التعديل بمعدل عشرة نواب عما هو مطلوب قانوناً.
لحود والقرار 1559
في الثاني من أيلول/ سبتمبر 2004 أصدر مجلس الأمن الدولي، بناء على مشروع أميركي ـ فرنسي، القرار رقم 1559 تناول الاستحقاق الرئاسي في لبنان، وتعديل الدستور بما سمح بتمديد مدة رئاسة العماد اميل لحود لفترة ثلاث سنوات. وشكّل هذا القرار انتهاكاً سافراً للدستور اللبناني والقانوني الدولي، فقد كان في واقعه يخفي نوايا وأهدافاً سياسية دولية تعارض المصلحة اللبنانية، وتناقض اتفاق الطائف نصاً وروحاً، وتهدف إلى ضرب علاقة لبنان بمحيطه العربي ولا سيما مع سوريا، بهدف خلق مناخات من عدم الاستقرار، وبالتالي كشف خاصرة لبنان للخنجر الإسرائيلي وتعريضه إلى أخطار جسيمة.
واجه الرئيس إميل لحود القرار 1559، ليس من باب الدفاع عن قرار تمديد ولايته، بل لأنه من جهة يتعلق بمسألة سيادية داخلية، وهو تدخّل سياسي بكل معنى الكلمة في الشؤون اللبنانية، ولا يستند الى أية مبررات أو مسوغات تشكل انتهاكاً للدستور أو القانون الوطني أو القانون الدولي، ولأنه من جهة ثانية استهداف واضح للمقاومة من خلال وصفها بالميليشيات والمطالبة بنزع سلاحها، في حين أن مقاومة الاحتلال هي حق تجيزه وتحترمه جميع الشرائع الدولية.
لحود والقضية الفلسطينية
لم يكن الرئيس لحود ينظر إلى لبنان من زاوية محدّدة، بقدر ما كان يراه جزءاً من منظومة القضايا الاستراتيجية العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ومن هنا كان ولا يزال يرفض توطين الفلسطينيين في لبنان، ويشدّد على تنفيذ القرار 194 القاضي بحق عودة الفلسطينيين الى ديارهم، ولا بد من الإشارة إلى أن لحود افشل محاولات استدراجه عام 1999 لمقايضة الانسحاب الاسرائيلي بتوطين الفلسطينيين، لأنه كان يؤمن بعدم تقديم هدية مجانية للعدو ما دام أن المقاومة ستجبره على الانسحاب المذل عاجلاً أم آجلاً.
وامتاز لحود بالعناد في رفض أي مشروع للتوطين، وأبرزه عشية انعقاد مؤتمر القمة العربية في بيروت عام 2002، حيث حاول بعض رؤساء الوفود العربية إقناعه بالتخلي عن تمسكه بتضمين البيان الختامي للقمة ذكر القرار 194 وحق العودة والاكتفاء بعبارة: "إيجاد حل عادل للاجئين". ولكن الرئيس لحود رد بالقول: "إما أن يتضمن بيان المؤتمر القرار 194 وحق العودة، أو لا تعقد القمة إطلاقاً".
لحود والمقاومة
يسجّل تاريخ لبنان للرئيس لحود جرأته في احتضان المقاومة، في وقت تردّد كل الرؤساء الذين سبقوه عن اتخاذ هذا الموقف، ولو أن بعضهم أعلن تأييده للمقاومة إلا أن هذا التأييد اقتصر على التصريح الاعلامي، وكان الرئيس لحود يدرك أن موقفه هذا، سيضعه في سياق تحدٍّ ومواجهة، إلا أنه مضى في هذا الخيار منطلقاً من انتمائه الوطني الراسخ، وأكّد على هذا التوجه منذ أن كان في قيادة الجيش اللبناني، حيث رفض قرار الحكومة بإرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب عام 1994، لأنه قرأ في طيّات هذا القرار مشروع فتنة ودق إسفين في العلاقة بين الجيش والمقاومة، كان سيؤدي إلى حرف مسار المواجهة مع العدو إلى الداخل.
وحين صنّفت الادارة الأميركية، والدول التي تدور في فلكها، حزب الله في خانة التنظيمات الارهابية، بقي الرئيس لحود متمسكاً بالموقف الذي أعلنه في اليوم الأول لاعتلائه سدة الرئاسة، بأن حزب الله هو حزب وطني يقاوم الاحتلال الاجنبي وفق ما نصت عليه الشرائع الدولية. وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001 حيث بدأ العالم يئن تحت وطأة "الانتقام الأميركي"، أعاد لحود تأكيد هذا الموقف بإعلان جملة مواقف أهمها:
أولا: حزب الله هو حزب لبناني صرف لا امتدادات ولا أعمال خارجية له إطلاقاً.
ثانيا: المقاومة لا تنفّذ عمليات عسكرية عبر "الخط الازرق" إلا في حال انتهاكه من قبل العدو وللدفاع عن النفس.
ثالثا: أعمال المقاومة محصورة في المنطقة اللبنانية التي لا تزال تحت الاحتلال وهي منطقة شبعا وجوارها.
رابعا: المقاومة ستبقى في جهوزيتها التامة طالما ان هناك أرضا لبنانية لا تزال تحت الاحتلال.
لحود والتحرير
آمن الرئيس اميل لحود بالمقاومة كأسلوب ناجع لتحرير الأرض المحتلة، خصوصاً مع عدم امتلاك الدولة اللبنانية المقوّمات العسكرية اللازمة للقيام بهذا الدور المصيري، وأدرك بأن وقوف الجيش إلى جانب المقاومة مع وجود الالتفاف الشعبي حول هذا الخيار سيقود حتماً إلى إنجاز التحرير، ولم يتردّد الرئيس لحود في ممارسة هذه القناعة قولاً وفعلاً، وقد شهد عهد الرئيس لحود تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي في 25 أيار/ مايو من العام 2000 باستثناء بعض تلال كفرشوبا ومزارع شبعا، وقد حمل الرئيس لحود لواء المقاومة إلى أكبر المحافل الدولية، وأعلن بكل قوة وقوفه الداعم للمقاومة في مجلس الأمن، مطالباً بإجبار "إسرائيل" على الانصياع للقرارات الدولية، ومؤكداً على حق لبنان في تحرير أراضيه بكل الوسائل المشروعة، غير آبه بالضغوط الدولية وسياسة العزل التي مارستها الدول الغربية بحقه، متسلّحاً بقوة الحق التي طالما ركّز عليها في خطاباته ولقاءاته السياسية والاعلامية.
لحود وقضية الأسرى
كان العماد لحود الرئيس الوحيد الذي تبنّى قضية المقاومين المحتجزين في سجون الاحتلال، ولم يألُ جهداً في سبيل تأمين كل العوامل التي ساهمت في تحريرهم، وتميّز بالعناد في الموقف وعدم الرضوخ للمطالب الإسرائيلية، وواكب التحركات والاتصالات التي جرت بين المقاومة والأطراف الدولية المعنية، وكان داعماً لوجهة نظر المقاومة في أي إجراء يصب في خانة تحقيق هذا الانجاز الوطني الكبير.
وأكّد لحود قناعاته الوطنية في حفل تكريم الأسرى المحررين الذي أقامه في 10 شباط/ فبراير 2004 في القصر الجمهوري، حيث منح كلا منهم وسام الارز الوطني من رتبة فارس ودرع رئاسة الجمهورية. وقال يومذاك: "فرحتنا لم تكتمل بعد، فهناك أسرى آخرون سنعمل على تحريرهم وان شاء الله قريباً جداً"، مشدداً على "أن لبنان الموحد شعباً ودولةً وجيشاً وطنياً ومقاومةً، الذي استطاع تحرير القسم الأكبر من الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، مصمم على استكمال تحرير مزارع شبعا المحتلة، واستعادة ما تبقى من أسراه ومعتقليه في السجون الاسرائيلية".
لحود وترسيم الحدود
خاض الرئيس لحود حرباً دبلوماسية وسياسية قاسية بامتياز بعد الانسحاب الاسرائيلي عام 2000، حيث واجه ضغوطاً دولية قوية، خصوصاً الأميركية منها، في ما يتعلق بترسيم الحدود اللبنانية، ولم يرضخ لعمليات الترهيب والترغيب التي حاولت دفعه إلى التراخي بشأن ترسيم الحدود، فقاتل بشراسة على كل سنتيمتر وواكب عمل الفريق اللبناني في هذه العملية برئاسة العميد أمين حطيط، وكانت توجيهاته صارمة بشأن عدم التهاون في الإخلال بتثبيت العلامات الحدودية مع الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ولم تقتصر المواجهة عند حدود اليابسة، بل تصدّى الرئيس لحود لعمليات سرقة المياه اللبنانية، وأعطى توجيهاته المشدّدة بتأمين المياه للجنوبيين العائدين إلى قراهم المحرّرة، واتخذ قراراً بتحويل قسم من مياه نهر الوزاني ليستفيد منه الناس في منازلهم وري حقولهم، على الرغم من التهديدات الإسرائيلية. وكان يمكن لهذه المواجهة أن تشعل الموقف عسكرياً، فضلاً عن دخول واشنطن على الخط تحت عنوان الوساطة لحل النزاع، إلا أن لحود رفض الدور الأميركي لأن ذلك قد يستلزم تنازلاً عن حق لبنان، ولم يساوم على أي نقطة من المياه اللبنانية.
لحود وحرب تموز/ يوليو
مرّ لبنان والمنطقة في مفترق مصيري خلال العدوان الإسرائيلي في تموز/ يوليو عام 2006، في ظل اصطفاف إقليمي ودولي غير مسبوق ضد المقاومة في لبنان، حيث أعلنت حكومة العدو والولايات المتحدة أهدافهما للقضاء على حزب الله وعاونهما في ذلك بعض أذناب الداخل اللبناني ومعظم العرب.
كان الضغط هائلاً بحيث كان الأمر متوقفاً عند صمود المقاومين والقلوب بلغت الحناجر، إلا أن الرئيس لحود ومنذ اللحظة الأولى التي نفذت فيها المقاومة الاسلامية عملية أسر الجنديين الأسيرين كان مطمئناً لسير الأمور، ولم يتأثر موقفه قيد أنملة، على الرغم من الاغراءات والتهديدات على حد سواء التي قدّمها له الغرب، إلا أنه صمد في وجهها مؤكداً ثقته بقدرة المقاومة على قلب المعادلة وصنع الانتصار، وشكّلت مواقفه الداعمة لحق لبنان والمقاومة دليلاً على عمق إيمانه الراسخ بالقضية الوطنية وصوابية النهج الذي اختاره عنواناً لمسيرة حملت اسمه ولن يخبو ذكرها في تاريخ لبنان.
محمد الحسيني