ارشيف من : 2005-2008

النظرية الأمنية الإسرائيلية في ميزان نتائج عدوان تموز

النظرية الأمنية الإسرائيلية في ميزان نتائج عدوان تموز

ترتكز العقيدة الأمنية الإسرائيلية منذ ما يقرب من 60 عاما على ثلاثة عناصر اساسية: الردع، الإنذار المبكر، والحسم في المعركة. وتم تحديدها بالاستناد الى مجموعة من الحقائق الجغرافية والسكانية والاستراتيجية، وتحديدا فيما يرتبط بمساحة الكيان الإسرائيلي وانكشاف عمقه الاستراتيجي والاهداف الحيوية فيه، إضافة إلى دونية تعداده السكاني في مواجهة المحيط العربي والاسلامي وطبيعة تركيبته الاجتماعية.
كيف تم تفعيل هذه العناصر خلال العدوان على لبنان خلال شهري تموز وآب من العام الماضي. وكيف يمكن تقويم النتائج؟
الردع الإسرائيلي في الميزان
يشكل عامل الردع مدماكا رئيسيا في المنظومة الأمنية الإسرائيلية ويُقاس بقدرة الرادع (إسرائيل) على منع المردوع عن اتّخاذ خطوة عنيفة، أو أن يفرض عليه قيوداً صارمة على استخدام القوة، بحيث يرى المردوع نفسه غير قادر على تحمل نتائج استخدامها أو ان كلفتها العالية تفوق الفائدة منها وهو ما يحول دون استخدامها. وعليه يمكن تلخيص مفهوم الردع بأنه يتمثل في حضور القوة العسكرية وإرادة تفعيلها في وعي وحسابات الطرف أو الأطراف المقابلة بحيث يحول دون إقدامهم على ما يمس أمن أو وجود الطرف الرادع.
وفيما يتعلق بتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي يلاحظ ان الكيان الإسرائيلي لديه تجربة غنية وناجحة في توجيه رسائل الردع بمختلف الأساليب...
اما بخصوص العدوان الماضي فقد شكل اقدام حزب الله على اسر جنديين إسرائيليين اسقاطا لكل عمليات التهويل التي بادر إليها قادة العدو قبل 12 تموز الماضي، لأنه وفقا لمفهوم الردع كان ينبغي على حزب الله ان يرتدع ويتراجع عن التزامه بتحرير الأسرى في السجون الإسرائيلية. ولكن المحاولات المتكررة التي اقدم عليها في هذا المجال ونجاح الأخيرة منها اسقط قدرة الردع الإسرائيلية.
وتجلى فشل قدرة الردع الإسرائيلية أيضا في الردود القاسية التي واجه بها حزب الله كل عمليات القمع والتدمير والمجازر التي وصلت إلى مرحلة طالت معها العمق الإسرائيلي في تعبير عن عدم نجاح كل محاولات ردع المقاومة، بل يمكن القول ان العكس هو ما حصل على ارض الواقع.
ويمكن أيضا تلمس معالم سقوط الردع الإسرائيلي في ملاحم التصدي التي سطرها رجال حزب الله وفي ثبات القيادة التي اسقطت وافشلت كل محاولات اسقاط قرارها.
وهكذا نلمس بوضوح ان عامل الردع الإسرائيلي لم يعط مفعوله الذي كان يراهن عليه العدو، بل ازداد تصدعا عما كان عليه، وهو امر أقر به كبار القادة السياسيين والعسكريين.
فقد قال وزير الحرب الإسرائيلي الاسبق والخبير الاستراتيجي موشيه ارينس، ان "إسرائيل مُنيت، في حرب لبنان الثانية، للمرة الاولى في تاريخها بهزيمة"، ويضيف ارينس ان "من يشك فيما إذا كانت إسرائيل قد هزمت، لأنه كان لها أيضا إنجازات، هل يوجد حرب لم ينجح فيها الطرف المهزوم في توجيه ضربات جيدة؟ لكن النتيجة النهائية هي 250 صاروخا أطلقت ضد إسرائيل في اليوم الأخير".
وفي نفس السياق يرى وزير الحرب الإسرائيلي الحالي إيهود باراك، الذي شغل مناصب عسكرية وسياسية هامة من بينها رئاسة الحكومة ورئاسة اركان الجيش الإسرائيلي، أن "حرب لبنان كانت فشلا.. ويوجد في إسرائيل انكسار جماهيري لا يجب الاستخفاف بأهميته.. الفشل في الحرب الأخيرة، أدى إلى تآكل حاد في قدرة الردع الإسرائيلية، التي بنيت هنا في الأعوام الستين الأخيرة..".
ولخصت صحيفة هآرتس صورة الردع الإسرائيلي بعد اسبوعين فقط من بدء العدوان، (25-7-2006)، بالقول "إنجازات إسرائيل بعد اسبوعين من خروجها للقضاء على حزب الله محدودة جدا.. الدولة صاحبة الجيش الذي نجح خلال ستة ايام في دحر ثلاث دول عربية، تقف الآن في وضع مُربك ومعاكس لماضيها التليد.. من كان يُصدق أن تنظيم عصابات مؤلفا من بضع مئات من المقاتلين سينجح في شل نصف الدولة بعمليات قصف يومية لمئات من الصواريخ.. رويدا رويدا بدأت تتكشف معطيات ومؤشرات مقلقة، ووجدنا لدينا جيشا غنيا وكبيرا وغبيا، بدلا من الجيش الصغير والذكي الذي نعرفه".
واعتبر المعلق العسكري في صحيفة يديعوت أحرونوت اليكس فيشمان بعد أكثر من ثمانية اشهر على الحرب ان إسرائيل "فقدت هراوة الردع في الصيف الأخير. ودفعت إسرائيل خلال الحرب الأخيرة في لبنان ثمنا بشريا ومعنويا فادحا، والى جانبه ضعف أحد رؤوس اموالها الهامة من اجل بقائها: عامل الردع".
الإنذار المبكر في الميزان:
تبرز أهمية الإنذار المبكر في حال لم يحقق الردع مفعوله، سواء بشكل جزئي أو تام. وترى اسرائيل في هذا المجال أن عليها امتلاك قدرات استخباراتية تمكنها من تحديد مكامن الخطر ومساراته وادواته كي تكون قادرة على المبادرة إلى توجيه ضربات استباقية له أو الاستعداد لمواجهته أو للمبادرة للقضاء عليه وتدميره.
ولعل أول ما يمثل امامنا الاستعدادات التي اتخذها الجيش الإسرائيلي في مواجهة إمكانية اقدام حزب الله على اسر جنود. لكن ذلك لم ينبع من اختراق استخباراتي وإنما من خلال اعلان قيادة حزب الله نفسها، وعلى لسان امينه العام السيد حسن نصر الله عن ذلك في مناسبات عدة. وبرز الفشل الاستخباراتي والانذاري في عدم القدرة على تحديد مكان وزمان العملية والاسلوب الذي سيستخدمه حزب الله. وهو ما كان له دور حاسم في نجاح عملية الاسر.
من جهة أخرى استطاع العدو ان يُقدِّر بأن حزب الله يراكم قوته وانه بلغ مستويات متقدمة جدا، لكن ما يصح القول فيه ان الاستخبارات اكتشفت الغابة ولكنها لم تعثر على الأشجار. اي بمعنى اخر اكتشف العدو اصل امتلاك حزب الله لقدرات قتالية وصاروخية نوعية واستراتيجية الا انه لم يستطع ان يحدد التفاصيل المرتبطة بذلك بخصوص الكميات الدقيقة وتوزيعها، وامكنتها، استخدامها... وهو ما حال دون تدميرها، وبقيت تطلق حممها حتى اليوم الأخير. وما قيل عن ان سلاح الجو استطاع تدمير المخزون الرئيسي من صواريخ الفجر تبين عدم صحته من خلال ما اعلنه سماحة السيد حسن نصر الله واكده اداء المقاومة على ارض الواقع.
ومن ابرز معالم الفشل الاستخباراتي أيضا المفاجأة الصاعقة التي اصابت سلاح البحرية الإسرائيلية، حتى ان قائده اللواء دايفيد بن بعشات علق على إمكانية امتلاك حزب الله لصواريخ بر بحر قادرة على تهديد بوارجه وسفنه الحربية بالقول انه أمر "خيالي ومدحوض".
كما ظهر خلال العدوان ان الجيش الإسرائيلي بدا مذهولا ومُفاجأ في مواجهة الصواريخ المضادة للدروع التي استطاعت توجيه ضربة قاسية جدا للعمود الفقري لسلاح المدرعات الإسرائيلية، المتمثل بدبابة الميركافا.
كما فشلت الاستخبارات في اكتشاف مقر القيادة والسيطرة الذي يقود ويدير الحركة الميدانية في مواجهة الجيش الإسرائيلي، ولم يتمكن ايضا من تحديد اماكن وجود القيادات الأساسية وخاصة مكان وجود الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله.
وهكذا نجد ان إسرائيل اخفقت في اختراق حزب الله الذي حال دون تمتع إسرائيل بالانذار المبكر بما قد يغير من موازين القوى، وأسس وعبَّد الطريق لكل انواع الفشل الاخرى.
الحسم في الميزان
ارتكز الكيان الإسرائيلي منذ العام 1948 على اعتماد الحسم في الحروب التي يخوضها انطلاقا من حقيقة انه غير قادر على خوض حروب استنزاف طويلة، وان أي حرب من هذا النوع ستكون خاسرة من جهته. وفي هذا المجال يلاحظ ان العدو حاول، خلال العدوان الأخير، ان يحسم المعركة من خلال سلاح الجو، وقدر ان يتم ذلك خلال عدة ايام، ولكن فشله وضعه امام خيارين: اما وقف المعركة واما شن هجوم بري واسع.
تم استبعاد الخيار بسبب الإلحاح الأميركي على مواصلة الحرب إلى حين تحقيق إنجازات ميدانية وعسكرية نوعية تمكنها من تثميرها سياسيا. إضافة إلى خوف إسرائيل من أن يؤدي وقف الحرب في ظل مشاهد الفشل والهزيمة إلى تصدع صورتها وهيبتها في المنطقة...
أما الثاني فقد تم استبعاده، ابتداء، خوفا من الغرق في المستنقع اللبناني ومن الخسائر الكبيرة التي قدَّرت أنها ستواجهها.
وما بين هذين الخيارين المستبعدين لجأ العدو الى تبني استراتيجية ترتكز على توجيه ضربات ذات رمزية معينة، بنت جبيل، بعلبك... ومحاولة إنشاء حزام أمني عبر احتلال القرى المتاخمة للحدود، ولكن بعد فشل هذا الخيار وجد العدو نفسه أخيرا، في ظل استمرار تساقط الصواريخ على العمق الإسرائيلي، أمام خيارين اخرين: اما الاقرار بالهزيمة واما اللجوء الى خيار الحسم البري، وهو ما قام به عندما دفع أربعة فرق تحتوي على عشرات آلاف الجنود... ولكن الضربات القاسية التي تعرض لها والخسائر الباهظة التي لحقت به دفعته إلى الانكفاء سريعا.
وهكذا نلاحظ ان العدو فشل أيضا في خيار الحسم السريع لتستمر المعركة طيلة 33 يوما بعدما كان يخطط بأنه سيحقق اهدافه المرسومة خلال الاسبوع الاول من الحرب.
جهاد حيدر
الانتقاد/ العدد 1226 ـ 3 أب/أغسطس 2007

2007-08-03