ارشيف من : 2005-2008
قـمـة التناقضات العربية
تستطع أن تعالج الخلاف السعودي السوري. صحيح أن القضايا تحتاج إلى تفاهمات عديدة ومتشعِّبة لكنها تختصر جميعها في التنافس على الدور القيادي والخيارات المتباعدة، تماماً مثلما كان الخلاف المصري السعودي في مرحلة الستينيات من القرن الماضي. كان الرديكاليون يُتهمون بأنهم رأس جسر لعبور النفوذ السوفياتي، والمحافظون يتهمون بأنهم يتعاونون على تسهيل النفوذ الغربي في المنطقة. لقد تغيَّر العالم ومعطياته دون شك لكن العرب لم يصيروا رقماً مستقلاً في التجاذبات الدولية.
يلوم المحافظون العرب الرديكاليين على أنهم لا يملكون الواقعية الكافية لقبول التوازنات الدولية، وهم يعرّضون المنطقة إلى المزيد من الصراعات التي تؤدي إلى حروب خاسرة، فيما يلوم الرديكاليون المحافظين على أنهم يتساهلون بالمصالح العربية ويفرطون بالحقوق باسم الواقعية ولا يبذلون الجهد الكافي ولا يستثمرون موقعهم وقدراتهم من أجل تحقيق إنجازات عربية. في الحالين يستدرج العرب النزاعات الإقليمية والدولية إلى ديارهم لأنهم لا يتفقون على تشخيص واحد لأمنهم القومي ويتصرفون وفق مصالح دولهم وكياناتهم وأنظمتهم، وأحياناً وفق أمزجة قياداتهم والميول الشخصية.
لكن ذلك لم يخرج في الماضي عن الانقسام السياسي الذي تغذّى من الاستقطاب الأديولوجي العريض على المستوى الدولي بين المعسكر الشرقي والعالم الحر كما كان يتم التصنيف. ولم يكن هذا الانقسام بأي حال يخرج عن طابعه السياسي إذا انتقل إلى داخل الكيانات والدول، كما كان يحصل عبر محاولات الاختراق المتبادلة والصراعات التي سيطرت على مسلسل الانقلابات العسكرية والمشاريع المماثلة لها.
لكن ما يجري الآن يتعدّى ذلك إلى اندراج هذا الصراع على مفاصل انقسامات وطنية لها أبعاد دينية وطائفية ومذهبية بعد أن أسس الاحتلال الأميركي للعراق مساراً للنزاعات المذهبية داخل حركات الإسلام السياسي الذي يتصدر الحراك في المنطقة كلها. غير أن هذا التنازع لم يعد ممكناً ضبطه وفق القواعد الحالية التي يغيب عن ساحتها التضامن العربي، على الأقل في موضوع كان يعتبر نقطة الجذب الأساسية للاهتمامات وهو الموضوع الفلسطيني والصراع العربي الإسرائيلي. فمنذ اللحظة التي قرر فيها معسكر ما بات يعرف الآن «بالاعتدال العربي» أن يضع جميع أوراقه في اليد الأميركية، فقد تخلّى عملياً عن حقوق ومصالح ومطالب ثلاث دول وشعوب ما زالت لها قضايا عالقة وعميقة مع إسرائيل ومن خلفها أميركا، وهي فلسطين وسوريا ولبنان. ومن الواضح أن مسايرة الولايات المتحدة لم تنتج حتى الآن جدول أعمال جدياً لتحريك الملفات هذه باتجاه التسوية السياسية العادلة نسبياً أو المقبولة.
وأمام العجز السياسي العربي لكل النظام الرسمي في أن يحقق بالدبلوماسية أي تقدم لحل مشكلة الحقوق الوطنية، يصبح الدور الإيراني الداعم لقضايا هذه الشعوب بمثابة الاختراق الكبير لمنظومة السياسة الرسمية العربية ومصدر حرج تتقاطع عنده مسألة تراجع المهابة والشرعية وتحريك الشارع. وفي الشارع العربي المكبوت هنا وهناك تنفتح قنوات الانقسامات الأهلية والنزاعات المذهبية التي وحدها باتت لغة الشرعية السياسية لحركة الناس اثر تراجع المشروع العربي واندثاره.
هكذا تبدو القمة العربية الآن قمة التناقضات العربية. فلا المحافظون قادرون على جذب الرديكاليين بغير ما جواب على مطالبهم ولا الرديكاليون قادرون على جذب المحافظين إلى خيارات تضع النظام الرسمي العربي بين مطرقة المشروع الأميركي وسندان حركات الشارع المتشدد.
إذا كانت فلسطين في هذه الخارطة أزمة تاريخية تجتاز الآن ستة عقود من عمرها، فهي صارت مألوفة أمام جذرية المشروع الصهيوني وهمجيته، فإن أزمة لبنان تكاد تعلن إفلاس النظام الرسمي العربي من حيث قدرته على حماية كيان عربي آخر من التفكك والضياع.
إن بقاء أزمة لبنان مفتوحة على هذا النحو تبدو تتمة منطقية للمشهد العراقي الذي يمكن أن يعم المنطقة كلما اختلَّت ضوابط نظام من أنظمتها. هنا في لبنان يكتمل مسرح العبث بالنظام الإقليمي الذي أرساه اتفاق سايكس ـ بيكو ليرتسم مسرح حرب المئة عام لحل إشكالات أديولوجية ذات جذور دينية بهدف الوصول إلى بناء سلطات تحت جناح قوى إقليمية كبرى مهيمنة. هذا الأفق الكامن والمحتمل يفرض نفسه على منطق العمل العربي المشترك، فلم يكتم الوفد البرلماني العربي خشيته من تداعيات الأزمة اللبنانية عربياً أو من عدوى النزاعات المذهبية. فإذا كان الخطر الحقيقي صار داخل البيت العربي إلى هذا الحد، فإن ذلك أدعى لانعقاد قمة عربية يشارك فيها الجميع على أعلى المستويات، ليس فقط من أجل لبنان وفلسطين والعراق، بل من أجل ما تبقّى على الخارطة.
المصدر: صحيفة السفير اللبنانية، 22آذار/مارس 2008