ارشيف من : 2005-2008
دور الرسول الأكرم في القرآن: تبليغ الرسالة لا يغني عن ممارسة الولاية
يذهب البعض من المسلمين ـ وهو قليل ـ إلى القول بأن الإسلام دين دعوة لا دولة، فهو لا شأن له بأمور السياسة وشؤون السلطة، وهو غير معني لا من قريب ولا من بعيد بما تكون عليه حال الحكام مع المحكومين. ففي زعمهم الإسلام رسالة من رب العالمين، ما على الأنبياء سوى القيام بتبليغها ليس إلا، من دون الالتفات إلى ما تكون عليه نتائج هذه الدعوة من إيمان المدعوين أو بقائهم على ما هم عليه من الكفر أو الشرك. وبالتالي فليس مطلوباً منهم التصدي للظالمين، ولا سيما منهم الحكام، ولا السعي لإقامة العدل بين الناس.
وفي السياق نفسه فإن وظيفة العلماء ـ ورثة الأنبياء ـ هي الاقتصار على دعوة الناس ونصحهم للأخذ بما جاء به الأنبياء من عند الله تعالى. وهكذا فهم قد يعرضون درساً في إحدى زوايا المسجد الذي يؤمون الصلاة فيه، أو يعتلون المنبر في هذه المناسبة أو تلك فيلقون موعظة بليغة، أو يحررون مقالة أو يؤلفون كتاباً في مسائل الدين. أما ما وراء ذلك فليس من شأنهم ولا هم مكلفون به.
وكل ذلك خلافاً لجوهر ومضمون رسالة الإسلام وصريح الآيات القرآنية والروايات النبوية التي تؤكد أن الدعوة إلى الله والإيمان به وطاعته، ليست كل ما كلف به الأنبياء(ع)، بل هي واحدة من اثنتين.. والثانية تتمثل في ممارسة النبي (ع) ولايته على المؤمنين حتى يتمكن من تطبيق تعاليم الرسالة. يقول تعالى: "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا". ويقول عزّ من قائل: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم". وجاء عن الإمام الصادق (ع): "بُني الإسلام على خمس: الصلاة والزكاة والصيام والحج والولاية، وما عُبد الله بمثل الولاية". وإذا تتبعنا سيرة الرسول الأكرم والأئمة المعصومين من بعده، نجد أنها تشكل تجسيداً لهاتين المهمتين المتكاملتين.
وقد تسلل هذا الفهم الخاطىء إلى نفوس هذا البعض لشبهة عرضت لهم جرّاء اقتطاع "آيات البلاغ" في القرآن عن سياقها الذي ضمّها إلى ما قبلها وما بعدها من الآيات. بل اقتطعت أحياناً من جملة هي جزء متمم لها، وذلك على النحو التالي:
" فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ"
"فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ"
"فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ"
"وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ"
"وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ"
"إن عليك إلا البلاغ".. وهكذا.
غير أن النظر إلى هذه الآيات في إطار سياقاتها يبيّن أنها وردت بصدد تصويب ردود فعل ومواقف كلٍ من المبلَّغين والمبلِّغ ـ أي الرسول نفسه ـ في سياق عملية التبليغ نفسها، لا أنها بصدد تحديد مهمة الأنبياء وحصرها بالتبليغ.
وهذا ما يتوضح باستعراض بعض النماذج الممثلة "لآيات البلاغ".
ففي قول تعالى: "استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير* فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ". الشورى 48.
يطلب الله من رسوله هنا أنه عندما يدعو فريقاً من الناس إليه ثم يعرضوا فلا يُتعب نفسه لإقبالهم عليه، لأنه في مقام التبليغ ليس عليه أكثر من ذلك. فهو لم يُرسَل حفيظاً عليهم مسئولاً عن إيمانهم و طاعتهم حتى يمنعهم عن الإعراض. وهذا نظير قوله تعالى: "إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل" (سورة الزمر).
وفي قوله تعالى: "وإن ما نرينّك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب"، توجيه للنبي (ص) أنه لا ينبغي له أن ينتظر نتيجة بلاغه أو حلول ما أوعدهم الله من العذاب بهم بسبب طلبهم منه أن ينزّل عليهم آية ردّاً عليه بعد دعوته إياهم للإيمان بالله.
ومثل ذلك قوله تعالى: "فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ".
وهذا فيه دلالة أولا: على النهي عن الإلحاح في المحاجّة، فإن المحاجّة مع من ينكر الضروري لا تكون إلا مراء و لجاجاً في البحث.
و ثانيا: أن الحكم في حق الناس والأمر مطلقا إلى الله سبحانه، وليس للنبي (ص) إلا أنه رسول مبلغ لا حاكم مسيطر كما قال تعالى: "ليس لك من الأمر شيء": آل عمران ـ 128. وقال تعالى: "لست عليهم بمصيطر".. الغاشية ـ 23.
وقوله تعالى: " قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قيلَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ، وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ".
ففي قوله تعالى: "قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به"، جواب هود عن قولهم رداً عليهم. فقوله: "إنما العلم عند الله" اقتصار العلم بنزول العذاب فيه تعالى لأنه من الغيب الذي لا يعلم حقيقته إلا الله جل شأنه. و هو كناية عن أنه (ص) لا علم له بأنه ما هو؟ و لا كيف هو؟ و لا متى هو؟ و لذلك عقبه بقوله: "وأبلغكم ما أرسلت به"، أي إن الذي حملته و أرسلت به إليكم هو الذي أبلغكموه ولا علم لي بالعذاب الذي أمرت بإنذاركم به.. ما هو؟ وكيف هو؟ و متى هو؟ و لا قدرة لي عليه.
اسماعيل زلغوط
الانتقاد/ العدد1259 ـ 21 آذار/مارس 2008