ارشيف من : 2005-2008
التبت ليست كوسوفو
كون التبت معلقة فوق جبال الهملايا، سطح الدنيا، ذلك المكان الذي بسبب من الحقن الإعلامي لا يكاد يوجد في الغرب إنسان إلا ويحلم بتسلقه، نقمة أكثر مما هو نعمة. تاريخها على الأقل منذ القرن السادس عشر وتراجع النفوذ المغولي أمام التوسع الصيني، هو تاريخ تنازع متصل، دخلت على خطه بريطانيا ومن ثم الهند وروسيا بدرجة أقل، ثم واشنطن ومن خلفها بلدان الغرب ومنظماته الإنسانية وغير الحكومية.. والذي يمنح الدعم أو يحجبه، مع الاستمرار في التأليب والتحريض بدرجات تزيد أو تنقص وفقا لتقلبات رياح السياسات الدولية، وسط معادلة أبرز ما فيها أن الصين مصممة على "تصيين" التبت بلا هوادة، بالشدة حيناً وبالرفق والإعمار والتنمية أحياناً أخرى. فمنذ انتصار الثورة الشيوعية في الصين على يد ماوتسي تونغ، تراجع النفوذ البريطاني والهندي في التبت، لتصبح المنطقة جزءاً من الصين الشعبية، ولتشهد نموا سريعا لحركة الاستيطان الصيني، من مؤشراته أن التبت ذلك البلد الشاسع بمساحته (أكثر من مليون كيلومتر مربع)، الذي كان يعد في أواخر الثمانينيات حوالى مليونين ونصف مليون من السكان الأصليين، بات الآن في حدود خمسة عشر مليوناً أكثر من نصفهم صينيون.. أقلية في بلدهم على ما يقوله الاستقلاليون. انتفاضات عديدة قام بها التبتيون منذ بداية الخمسينيات كان أبرزها قبل انتفاضة العام 1989، تلك التي اندلعت عام 1959 وأسفر قمعها من قبل الصينيين عن نزوح حوالى 200 ألف من السكان، بينهم تنزين غياتسو والدالاي لاما الحالي، إلى الهند ونيبال وبلدان الغرب. ومنذ ذلك الحين أقيمت حكومة تبتية في المنفى في دارمسالا الهندية، وتحول الدالاي لاما الذي منح جائزة نوبل للسلام، والذي يقضي معظم الوقت في التجوال على العواصم الغربية، داعياً إلى القضية التبتية، وإلى رمز يحيطه الغربيون بأسمى آيات الاحترام والتبجيل. لكنه وهو المنفي الأبدي الذي شهد خذلان قضية شعبه من قبل الغربيين، يبدو أكثر واقعية من أن يقلب ظهر المجن للصينيين بشكل سافر. فهو يكتفي بالمطالبة بحكم ذاتي وبالمزيد من الاحترام لثقافة شعبه التي كانت قد تعرضت فعلاً للكثير من التنكيل إبان الثورة الثقافية الصينية، وإن كان الوضع قد شهد الكثير من التغيرات الإيجابية في ما بعد. كما أن الدالاي لاما قد سبق له أن أوفد مندوبين من قبله للتفاوض مع بكين.
والجديد هو أعمال العنف التي شهدتها العاصمة لاسا يوم الجمعة الماضي (14/3/2008)، والتي كانت الأشد عنفاً منذ أحداث العام 1989. والمناسبة هي الذكرى التاسعة والأربعون لانتفاضة العام 59 ونفي الدالاي لاما. لكنها تأتي في سياق منطق الاستقلالات الذي انطلق من كوسوفو، وتزامن خصوصاً مع استعداد الصين لاستقبال الألعاب الأولمبية في آب/ أغسطس القادم، وتحديداً مع الاستعداد لمرور الشعلة الأولمبية في لاسا بالذات بعد أسابيع. ويبدو أن الصينيين قد تخوفوا من عمل يعيق مرور الشعلة، فاتخذوا الإجراءات الكفيلة بمنع ذلك. كما يبدو أن التبتيين المعادين للوجود الصيني (أو طغمة الدالاي لاما ومن وراءها من قوى أجنبية، على ما يقوله التبتيون المؤيدون لهذا الوجود)، لم يكن بوسعهم تفويت فرصة ثمينة تسمح في ظل تسليط الأضواء الأولمبية على الصين، بإبراز قضية التبت، وحتى بالعمل من أجل مقاطعة هذه الألعاب. وإذا كان المسعى الأول قد حقق نصيبه من النجاح، فإن المسعى الثاني قد مُني بالفشل وسط تأكيد اللجنة الأولمبية أن المقاطعة لن تضر إلا باللاعبين المساكين، في حين أن المشاركة من شأنها أن تعطي دفعاً لقضية حقوق الإنسان في الصين! وفي حين تتضارب الأنباء حول حقيقة ما حدث، تركز السلطات الصينية على أعمال العنف والتخريب التي قام بها من تسمّيهم بالمشاغبين! بينما تركز وسائل الإعلام الغربية على أعمال القمع التي قام بها الجيش الصيني، وتذهب إلى حد القول بسقوط مئة قتيل واعتقال المئات وتعذيبهم. وإذا كان الهدوء قد عاد ـ في ما يبدو ـ إلى العاصمة، فإن تظاهرات الشجب تتواصل في نيبال والهند والعديد من العواصم الغربية، ويصل الأمر باشتراكي فاز لتوّه في الانتخابات البلدية الفرنسية إلى حد رفع علم التبت فوق مبنى بلديته. أما على المستويات الرسمية فقد توالت النداءات من الأمين العام للأمم المتحدة وكبار المسؤولين في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي معربة عن القلق، وداعية إلى ضبط النفس، ومطالبة الصين بفتح حوار مع الدالاي لاما.. بينما لوحظ صمت رسمي في كل من اليابان وكوريا الجنوبية برغم استئثار الحدث باهتمام شديد من قبل وسائل الإعلام في البلدين. في حين اكتفى رئيس حكومة التبت في المنفى بدعوة الصين إلى الرحمة والحكمة. أما روسيا التي كانت قد تنبأت بأن استقلال كوسوفو سيفسح في المجال أمام اندلاع سيل من الحركات الانفصالية في العالم، فقد اعتبرت أن التفاوض مع الدالاي لاما شأن صيني داخلي، معيدة بذلك الكرة إلى بكين التي سبق أن شجبت استقلال كوسوفو.
ع.ح.
الانتقاد/ العدد1259 ـ 21 آذار/مارس 2008