ارشيف من : 2005-2008

المشهد الاسرائيلي بعد عملية القدس النوعية: تراجع اسرائيلي في غزة، قلق من انتفاضة ثالثة.. وتهديدات متجددة

المشهد الاسرائيلي بعد عملية القدس النوعية: تراجع اسرائيلي في غزة، قلق من انتفاضة ثالثة.. وتهديدات متجددة

تداخلت في الكيان الاسرائيلي بشكل لافت، "وجهات التهديد" الامنية، وتشعبت وتشابكت بعضها ببعض. واذا كان يصعب في الماضي فهم وضع ساحة من ساحات المواجهة مع الكيان، من دون دراسة وبحث ما يجري في الساحات الاخرى المقابلة، الا انه بات من المستحيل، في المرحلة الحالية، عزل أي منها عن الاخرى، وخاصة ان البعض يميل الى فهم الكيان وحراكه السياسي والميداني، في اطار الفهم القائم على تتبع الكيان "كدولة" تسير نحو قرارات صعبة وعدوانية (الحرب)، اقلها قرار حرب محدودة في ساحة من ساحات المواجهة معها (غزة ولبنان..)، وأكثرها شدة هو قرار بحرب كبرى، لا يبعد أن يكون للساحة الشمالية دور مركزي فيها.
يشتد الميل نحو الحرب، أو تقديرها كمسار، كلما تكونت لدى إسرائيل الظروف الموضوعية (المادية) التي تحكم القرار الإسرائيلي وتتيح بلورته وظهوره، وتحديدا وانطلاقا من أن لدى إسرائيل حافزية وجهوزية (على تفصيل) لم يسبق لها مثيل. وإذا ما اجتمع هذان العاملان مع وجود ميل أو قرار نحو الحرب، فلا بد من الجنوح نحوها، سواء كانت حربا محدودة أو غير محدودة. وبالأخص أيضا، أن لدى أصحاب القرار الإسرائيلي "فترة سماح"، إن صح التعبير، قد تمتد إلى أواخر الصيف، موعد الانتخابات الأميركية وجمود القرار لدى الإدارة في واشنطن.
البعض يرى في تحرك الجيش الإسرائيلي نحو قطاع غزة، وتحديدا تجاه العملية العسكرية التي سبقت التهدئة المؤقتة الأخيرة، تحركا يهدف بشكل جدي وثابت إلى إسقاط حركة حماس في القطاع، أو اقله إضعافها إلى أقصى ما يمكن، كمقدمة للعمل العسكري العدائي في ساحة او ساحات أخرى، من الممكن أن تكون الساحة الشمالية الأقرب، هي ملعبها (لبنان و/او سوريا)، او الساحة الشمالية الأبعد (ايران)..
في المقابل، يرى بعض المراقبين ان التحرك نحو اسقاط حماس في غزة، هو هدف لذاته غير مرتبط بالتحضير لضربة او حرب على ساحة اخرى، من اجل ترتيب او انهاء الخطر والتهديد في الساحة الداخلية الاسرائيلية، (الدائرة الاولى والاقرب في التهديدات)، ويميل هذا البعض الى اعتبار الفعل العسكري الاسرائيلي الهادف الى اضعاف او اسقاط حماس كما تجلى في الاونة الاخيرة، مقدمة لتحسين وتعزيز وضع الطرف الفلسطيني المنافس، أي السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس ورئيس حكومته سلام فياض، الامر الذي يسمح لاسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة الاميركية، وكل بحسب مصالحه الخاصة، بتوقيع اتفاق "سلام" مع "الفلسطينيين" يتماشى مع المصالح الاسرائيلية بشكل كامل، أي تنازل فلسطيني تام مقابل تلقّ اسرائيلي تام، دون مقابل.
ما حصل في قطاع غزة من نتائج ميدانية، وانطلاقا من الاهداف المرسومة للاجتياح الاسرائيلي (الاجتياح المصغر لمنطقة محيط جباليا في شمالي القطاع)، يمكّن من القول ان حركة حماس قد استطاعت منع الجيش الاسرائيلي من تحقيق اهدافه. ونظرا لموازين القوى البينية، فلا شك ان حماس قد انتصرت في هذه الجولة، برغم الاثمان المدفوعة، الامر الذي دفع الاسرائيليين الى البحث عن بدائل أخرى، ما زالت معالمها غير واضحة الى الان، لانهم ليسوا اللاعبين الوحيدين فيها بعد حصيلة الاجتياح المصغّر.
ويمكن القول ان مجرد إجراء المفاوضات غير المباشرة مع حماس (بواسطة مصرية كانت مرفوضة من قبل) للتوصل الى هدنة معها، برغم أنها ستفرز واقعا غير حميد للإسرائيليين، يعتبر أيضا اعترافا عمليا من قبلهم بأن حماس قد انتصرت.
لكن هل يعني ذلك، أن التصعيد في الساحات الأخرى لم يعد قائما؟. بمعنى ان التهدئة في الساحة الفلسطينية، لو حصلت، أي الساحة الغزاوية، تعني عدم إقدام الإسرائيليين على تصعيد في ساحات أخرى، وتحديدا الساحة الشمالية مع لبنان و/أو سوريا؟.
لا يستبعد ان لا تكون الإجابة عن هذا السؤال إلا بالإيجاب. ولا تنطلق الإجابة هنا من المفهوم القائم على عدم القدرة الإسرائيلية على فتح جبهتين، إذ يمكنها بسهولة، وإن كانت نسبية، أن تحيّد ساحة معينة (تحديدا غزة) باتجاه التفرغ لساحة أخرى. لكن الإجابة تنطلق من انه إذا لم تقدر إسرائيل أن تجد مخرجا ملائما ويتناسب مع المصلحة الإسرائيلية في حال اجتياح قطاع غزة، بمعنى ترتيب الوضع السياسي والأمني في القطاع بعد انتهاء الاجتياح واستحقاق الانسحاب منه، فالاولى انها لن تجد مخرجا ملائما في الساحة الاخرى، وتحديدا لبنان، اذ ان الساحة اللبنانية اكثر تعقيدا وتشابكا وتلازما مع ساحات مجاورة اخرى ومحفوفة بالمخاطر، ليس اقلها الخطر العسكري المباشر، قياسا على الساحة الغزاوية.
لا يعني ذلك ان قرار الحرب لم يعد قائما، لكن ما يتضح هو انه قرار غير بسيط، ويستصحب تعقيدات غير قليلة، من المستبعد ان يجري تجاوزها في المرحلة الحالية، الا في حالات متطرفة، تستلزم بحثا خاصا.
الخشية من انتفاضة جديدة
من ناحية ثانية، قد تكون مرتبطة ايضا بما ورد، لفت في المقاربة الاسرائيلية وما تبعها من حركة عملية قامت بها اجهزة الامن الاسرائيلية المختلفة، في اعقاب التراجع الاسرائيلي عن العملية العسكرية في قطاع غزة، وايضا العملية النوعية التي جرى تنفيذها في القدس ضد مركز "هاراف" التابع للصهيونية الدينية، ان هناك تحولا لافتا قامت به اسرائيل تجاه الوضع الداخلي الفلسطيني (فلسطينيي القدس وفلسطينيي اراضي 48)، حيث حكمت الخشية والقلق حركة الاسرائيليين، وفسرها بعض المحللين على انها صدمة الشعور واكتشاف حجم الفشل في مقاربة فلسطينيي الداخل (اراضي 1948) وتقدير مستويات الخطر الكامنة لديهم على اسرائيل.
في اطار التتبع للشأن الاسرائيلي في الاسابيع الماضية، وتحديدا بعد عملية القدس النوعية، لوحظ دخول وافد جديد على سلة التهديدات القائمة للدولة العبرية، كانت اسرائيل قد استبعدته عمليا من حساباتها المباشرة، نتيجة لما يسميه بعض العسكريين الاسرائيليين "نجاح سياسة القمع المتبعة في الضفة الغربية"، والتي اسفرت عن تدني نسبة العمليات ونوعيتها الى حد معقول، ويمكن التعايش معه اسرائيليا، هذا من جهة. ومن جهة اخرى، اظهرت عملية القدس، وايضا مشاهد القتل التي رافقت العملية العسكرية الاخيرة في قطاع غزة، امكانية مرتفعة لاعادة مشهد انتفاضة الداخل عام 2000، في شمال فلسطين المحتلة، اذ تزايدت بشكل مقلق من ناحية اسرائيل، حركة رشق الحجارة والتوتر في المناطق والقرى العربية في شمال فلسطين المحتلة، ما أنذر بخطر داهم داخل "البيت الاسرائيلي".
في هذا الاطار برز التالي:
سعي اسرائيلي حثيث للتشكيك في اية رواية او اعلان يشير الى ان جهة ما من فلسطينيي عرب 1948 تقف وراء عملية القدس النوعية. اذ بعد اعلان منظمة "أحرار الجليل- مجموعة عماد مغنية" مسؤوليتها عن العملية، اثير نوع من البورصة المتذبذبة في التعليق والتحليل الاسرائيلي، إلى ان استقرت اخيرا على نوع من الاستبعاد لوجود المنظمة المذكورة ماديا، لكن مع ميل لربط العملية بحزب الله ما دام انه عامل خارجي، علما ان ربطها بالحزب، بحسب المنطق المتداول اسرائيليا، يوجب الربط بينه وبين احرار الجليل.
سعي اسرائيلي حثيث الى ربط العملية بجهة خارج اطار الاراضي الفلسطينية، باتجاه تحميل المسؤولية لجهة خارجية وربط منفذ العملية بتنظيمات موجودة في غزة، او في دمشق، بأي ثمن ووسيلة ممكنة. بل ان بعض المحللين المدفوعين للتحليل من قبل جهات رسمية اسرائيلية حاول الربط بين رفع علم حزب الله او حماس على منزل الاستشهادي ابو دهيم، كدليل على ان حماس او حزب الله وراء العملية.
سعت الشرطة الاسرائيلية، في حركة يتوجب الوقوف عندها، الى اجراء شبه مفاوضات مع والد الاستشهادي ابو دهيم من اجل انزال علم حزب الله عن منزله وعن خيمة العزاء التي اقيمت بالقرب منه، واستلزم الامر اكثر من ثلاثة ايام الى ان اقدم الوالد على انزال العلم، وامتنعت الشرطة عن التوجه الى الحي كي لا تثير حفيظة قاطنيه الفلسطينيين المقدسيين والتسبب بمصادمات.
حرصت الشرطة الاسرائيلية على عدم تسليم جثة الاستشهادي الا بعد تعهد من عائلته بعدم اجراء دفن علني وحاشد، وجرى الاشتراط ان يتم ذلك ليلا ومن دون اعلان مسبق، وهذا ما تم بالفعل.
قامت القوات الامنية الاسرائيلية، بمنع أي احتكاك بين اليهود والفلسطينيين في القدس، بل اقدمت الشرطة الاسرائيلية، وبأمر شخصي من وزير الحرب ايهود باراك على ابعاد اليهود واقفال منطقة "حائط المبكى" للحيلولة دون هذا الاحتكاك، وذلك في اعقاب تنفيذ عملية القدس النوعية، وهو اجراء نادر وقد يكون غير مسبوق.
لوحظ وجود قلق شديد من ظاهرة تجددت لدى فلسطينيي اراضي 48، وتمثلت في رشق الحجارة على المفترقات والطرق الرئيسية في شمال فلسطين المحتلة تجاه السيارات والحافلات التي تقل يهودا، وهي ظاهرة اخذت بالانتشار السريع وكادت ان تشمل كل القرى والبلدات العربية في الشمال.
اضافة الى شواهد اخرى، يمكن القول ان عملية القدس النوعية اعادت اسرائيل الى مربع ما، قد لا يكون المربع الاول في المواجهة التي تشهدها دائرة الخطر الداخلية (الفلسطينية بأقسامها)، لكنه بالتأكيد مربع يدفع الاسرائيلي الى اعادة دراسة خياراته التي رأى انها متاحة امامه، وكان يضعها على جدول اعماله العملي..
ما ذُكر يوجب عودة الاسرائيلي مجددا الى توصيف وتصنيف لساحات التهديد التي تواجهه، وعلى الاسرائيليين، وكما يبدو يدركون ذلك، التعامل في تخطيطاتهم العدوانية مع "الوافد" الجديد او المتجدد، والاكثر اقلاقا، وهو فلسطينيو الاراضي المحتلة عام 1948. في ذلك ما يكفي لاعادة دراسة الكثير من الحسابات تجاه أي تحرك عدواني عسكري او امني، متصل او غير متصل، بساحات المواجهة الاخرى.
يحيى دبوق
الانتقاد/ العدد1259 ـ 21 آذار/مارس 2008

2008-03-21