ما إنْ ينتهي سمير جعجع من دعوى قضائية بجريمة قتل عن سابق تصوّر وتصميم بحسب ما يشتهي ويردّد في مجالسه الخاصة، للتدليل على تفهّمه للأصول القانونية، حتّى يدخل في دعوى جديدة أشدّ تعقيداً من الناحية القانونية، وأكثر وضوحاً لجهة الأدلّة والقرائن من سابقاتها الراسخات في سجله العدلي الذي يحمل سلسلة أحكام صادرة عن قضاة كبار في محكمة الجنايات والمجلس العدلي، وإن محاها العفو السياسي الخاص، إلاّ أنّه يستحيل إزالتها من تاريخ لبنان، ومن أذهان الناس، ومن محفوظات قصر العدل.
فبموازاة سعي جعجع إلى تبييض سجله العدلي في الدوائر الرسمية واستصدار سجل نظيف استعداداً لخوض الانتخابات النيابية في العام 2009، في مكان الفوز الوحيد والمضمون في منطقته في قضاء بشري، بات يواجه دعوى قديمة جديدة تتعلّق بإعدامه المسؤول السابق في غرفة عمليات "القوّات اللبنانية" سمير زينون بتاريخ 18 كانون الثاني/ يناير من العام 1988، رمياً بالرصاص داخل ثكنة ضبية وبحضور ضبّاط وعناصر ميليشياته.. وهو كان اعترف خلال التحقيق معه لدى مديرية المخابرات في الجيش اللبناني بأنّه اتخذ قرار إعدام زينون وغسّان لحود لحود لقيامهما بالتجسّس عليه..
ولهذه الجريمة دلالة هامة، فهي تؤكّد بما لا يقبل الشكّ، بأنّ جعجع لم يكن يفرّق بين قتل المواطن العادي، والسياسي المعارض، والمقاتل حتّى الموت، إلى جانبه وتحت جناحه، ما دام أنّ الغاية الشخصية تتفوّق على ما عداها، وهي استباحة القريب والبعيد للبقاء في سدّة القيادة، والظهور بصورة الدموي والمتعطّش لإراقة الدماء، لزرع الرعب في قلوب المحيطين به قبل المتفرّقين عنه والبعيدين عنه أيضاً.
"تركيب الفيلم"
بدأت تفاصيل هذه الجريمة، عندما شرع رئيس جهاز الأمن في "القوّات اللبنانية" غسّان توما يخيّطها بطريقته اللبقة في "تركيب" الملفّات، فهدّد سمير زينون بالقتل قبل أسبوع واحد من تصفيته، بالقول: "الله لا يخليني إذا بخلّيك" وذلك على مرأى ومسمع من شقيقه الصغير جورج الذي كان في سنّ التاسعة عشرة من عمره، وأبقته "القوّات" رهينة لديها سنة ونصف السنة مع ما يرافق ذلك عادة من تعذيب وتنكيل، كما يقول الشقيق الأكبر طوني زينون في لقاء مع "الانتقاد"، وذلك بغية تشويه صورة العائلة وإظهارها متورّطة في محاولة اغتيال جعجع، وهو لم يكن صحيحاً على الإطلاق.
فلم تسعف مخيّلات توما وغسان منسى وجورج الطحّان أصحابها في إعداد ملفّ محبك عن ضلوع زينون في عمل ما ضدَّ "القوّات" ومنه التخطيط للقيام بانقلاب فالأمر أكبر منه، ولكن سرعان ما استقرّ الرأي في نهاية المطاف، على إطلاق رواية التخطيط لمحاولة اغتيال جعجع بسيّارة مفخّخة. وبوشر بالتنفيذ، فتمّ توقيف الإخوة الثلاثة سمير وجورج وطوني الذي كان يعمل ليلاً موظّفاً في غرفة الاتصالات "السنترال" في ثكنة أوبيرلي" في زوق مصبح - أدونيس، لتأمين دخل إضافي لأسرته، "وأحضروا جورج إلى التحقيق وراحوا يعذبونه ويضربونه وكنت أسمع صرخاته، وحاولوا إرغامه على القول بأنّ السيّارة المعدّة للتفجير تخصّه كما أنّ دفتر القيادة العائد لها ملكه، بينما هو في حقيقة الأمر لم يكن يجيد القيادة ولم يكن يحوز رخصة سوق، لا خصوصية ولا عمومية، ومع أنّه رفض توقيع إفادته المكتوبة بحسب مزاجهم وأهوائهم ومخطّطهم، إلاّ أنّ سيناريو الجريمة ظلّ قائماً، وقرار التخلّص من سمير زينون وارداً ونهائياً، ولا مجال للرجوع عنه.
سجون "القوّات"
فقد أوحت "القوّات" للناس بأنّ هناك قضية معيّنة "وأنا أوقفت مدّة شهرين من دون أن يجري أيّ تحقيق معي، وأمضيت أوّل 15 يوماً في زنزانة واحدة مع شقيقي سمير وجورج اللذين كانا يقتادان يومياً إلى التحقيق باستثنائي، وكان يوجد تنصت في الزنزانة، فنبّهني سمير إلى ذلك، وطلب مني التحدّث همساً، وفهمت منه بعد كلّ جلسة تحقيق أنّه يوجد "تركيب فيلم"، وأنّ المشترك في المكيدة هو جورج الطحّان، وقال لي سمير همساً: عم يكبّ عليّ حرام وكلام كبير ومش عارف كيف بدي حط عيني بعين هالأصلع"، قاصداً سمير جعجع على ما يوضّح طوني الذي تنقّل بدوره بين عدد من سجون "القوّات اللبنانية" في أدونيس، ومبنى الأمن في"سليب كومفورت" في الكرنتينا، و"ثكنة أوبيرلي"، ويحمد ربه على أنّه لم يسلّم إلى "إسرائيل" كما جرى مع مواطنين لبنانيين كثر خلال فترة الحرب اللبنانية.
وكان سمير زينون يحبّ جعجع، ومن مقاتليه الذين يعوّل عليهم في غير جبهة، ولذلك نشأت بينهما علاقة ودّ ترجمت من خلال أمور أساسية منها أنّ زينون كان يدخل إلى مكتب جعجع ومسدسه على خصره بشكل عادي فلا يتركه في الخارج أسوة بآخرين، كما أنّ جعجع كان ينام على سرير زينون في ثكنة القطّارة التي كان قائدها، كما أنّ زينون كان يقبض راتب والد جعجع، العسكري في الجيش اللبناني فريد جعجع، ويسلّمه له من دون نقصان، ولو لم تكن العلاقة مميزة بينهما لما ائتمنه على روحه وحياته.
وإذ يعتبر طوني أنّ الإفراج عنه هو للإيحاء للرأي العام المسيحي "بأنّ آل زينون متورّطون في قضية معيّنة وأنّ طوني الآدمي خرج لعدم علاقته بها بينما المتورطان هما سمير وجورج"، يؤكّد أنّ إعدام شقيقه سمير تمّ بعد ثلاثة أشهر مع شخص آخر يدعى غسّان لحود في ثكنة ضبيه حيث "تسكن العائلة وذلك بغية تحقيق استهداف معنوي لها".
محكمة عسكرية ميدانية
ويتحدّث طوني زينون عن سماع أهالي ضبيه القاطنين بقرب ثكنة "القوّات" نداء عبر مكبّرات الصوت يدعو الضبّاط والعناصر لحضور حفل الإعدام رمياً بالرصاص والذي تمّ بإشراف جعجع نفسه وقيادته العسكرية والأمنية، وتجمد الدمعة في عينيه عندما يقول بصوت متهدّج: "حتّى أنّ زوجتي تريز الحاصباني كانت تمرّ من هناك مع والدتها ولم تعرف ما يجري، ولما تناهى إلى سمعها الدعوة إلى حضور الإعدام سقط ابني من ذراعيها فالتقطته أمّها".
ويستفيض طوني في كشف المعاملة السيّئة التي لاقتها عائلته من عناصر "القوّات" بعد تحقيق الإعدام، فمنعتها من نقل جثمان سمير زينون بواسطة سيّارة إسعاف تابعة للصليب الأحمر، ووضعته على "شباكط سطح سيّارة عادية، ومنعت النسوة من البكاء والندب عليه وإقامة العزاء، ما اضطرّ العائلة إلى دفنه في بلدة والدته كوكبا الجنوبية، مع أنّ العائلة من بلدة القبيات في الشمال.
كوبرا: جعجع قتل زينون لإرهاب معارضيه أكد روبير حاتم الملقب "كوبرا" صحة ما ورد في ادعاء عائلة زينون على سمير جعجع في قضية اعدام ابنها على مرأى من الناس، وفي احتفال قواتي أريد منه ارهاب كل من يفكر بمعارضة سمير جعجع، بعدما فرض سيطرته المطلقة على ميليشيا القوات اللبنانية. وقدد عدد حاتم جرائم أخرى قام بها جعجع بحق كوادر وعناصر من القوات اللبنانية، وتصفيات جرت بأمر من سمير جعجع مباشرة وطالت رجال دين وأناسا عاديين. كما تكلم "كوبرا" عن ملف النفايات السامة وتورط جعجع المباشر بها، وتلقيه مبلغ اثنين وعشرين مليون دولار من جمال خدام نجل نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام، مقابل دفن تلك النفايات في المناطق التي كانت تحت سيطرته. كلام روبير حاتم "كوبرا" حول "حفلة قتل زينون"، جاء في مقابلة خاصة بـ"الانتقاد" تنشر تفاصيلها في الأعداد المقبلة. |
ويضيف أنّه تسلّم الجثمان من مستشفى أبو جودة من "الأب يعقوب البدوي، وهو من بلدة زكريت، والذي أعطاني الوصية أيضاً"، ويسأل "هل يعقل أن ترسل البطريركية المارونية الأب البدوي لتعريف سمير بحسب الطقوس المسيحية قبيل لحظات من تنفيذ حكم الإعدام به والصادر عن محكمة عسكرية ميدانية؟".
وفاخرت "القوّات اللبنانية" بهذا الصنيع، ونشرت في عدد مجلّة "المسيرة" الناطقة باسمها وقائع حفل الإعدام الذي تمّ بناء لطلب وقرار سمير جعجع بصفته القائد الأعلى للقوّات اللبنانية، "وهذا الأخير عيّن هيئة المحكمة ونصّب نفسه رئيساً لها وأصدر القرار بالإعدام".
وتؤكّد وكيلة الإدعاء الشخصي المحامية مي الخنساء لـ"الانتقاد" أنّ هذه الدعوى لم تسقط بمرور الزمن بسبب حصول إجراءات قضائية آخرها في العام 2000، جعلتها مستمرّة، وإذا ما استفاد جعجع من قانون العفو العام الرقم 84 والصادر في 26 آب/أغسطس من العام 1991، فهو يخفّف العقوبة عنه ولا يلغيها، كما أنّ هذه الجريمة غير مشمولة بقانون العفو الخاص الصادر في العام 2005 بطمس وإلغاء الأحكام عن جعجع.
كما أنّ بقيّة المدعى عليهم وهم: طوني أبو جودة، وراجي عبدو، ومانويل يونس، غير مشمولين بقانون العفو، وبالتالي فإنّ الملاحقة بحقّهم لا تسقط، ولذلك يسعى جعجع إلى استمالة عائلة زينون لإسقاط حقّها الشخصي من دون أن ينجح في مخطّطه بعدما قرّرت العائلة مواجهته والسير بالدعوى "وهو في السلطة وليس في السجن لاستعادة حقّنا أمام الناس معنوياً" على حدّ تعبير طوني زينون.
علي الموسوي
الانتقاد/ العدد1259 ـ 21 آذار/مارس 2008