ارشيف من : 2005-2008
وثيقة قوى 14 شباط: هل تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به؟!
يردد الغربيون في كل مرة يريدون فيها الاشارة إلى تفاهة وثيقة ما أو بؤس نص معين مثلاً شائعاً فحواه أن هذه الرسالة أو تلك المقالة، لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت بها.
وهذا المثل أكثر ما يكون انطباقاً على الوثيقة التي أصدرها خليط قوى 14 آذار في الذكرى الثالثة لما يطلقون عليه عبارة "ثورة الأرز".
فهذه الوثيقة التي زعم كاتبوها ومعدوها (وهما حسب المعلومات المتداولة اثنان) انها مشروع "للحوار الوطني"، أتت وفق قول الكاتب سليمان تقي الدين، عبارة عن "مطالعة ايديولوجية سجالية وفي مواجهة "المشروع الآخر"، فهي قفزت فوق الأزمة الوطنية الشاملة ولم تعالج موضوعاً من موضوعاتها ولم تجب عن سؤال من أسئلتها، لقد ركزت أفكارها على تشويه صورة الآخر " تبريراً للصراع معه وليس تمهيداً للتسوية والوفاق".
وبما أن أي رسالة "تُقرأ من عنوانها" فعنوان هذه الوثيقة، قرأ مراقب أبعادها ومضامينها من لحظة اطلاقها علانية في قاعة البيال المجاورة لمرفأ بيروت، وبالتحديد عندما التهبت أكفّ الحضور بالتصفيق لأكثر من عشر دقائق عندما أطلت عليهم القائمة بالأعمال الأميركية في بيروت ميشال سيسون ـ على نحو غير مألوف ـ وفي مشهد يعكس من حيث الشكل العلاقة التي تربط الفريق صاحب الوثيقة، بواشنطن، ويعكس من حيث المضمون رهان هذا الفريق إياه على هذه العاصمة، ويؤكد انتماءه اللامحدود لها ولمحورها وسياستها، فمندرجات الوثيقة من ألفها إلى يائها جاءت خصوصاً لتجسد هذا الأمر.
فالوثيقة أتت كما صار معلوماً لكل من كلّف نفسه عناء مطالعتها أو الاستماع اليها (وهو وقت مهدور) بجديد يكاد يكون وحيداً وهو مقولة الصراع بين "الثقافة" التي يدّعي هذا الفريق أنه يمثلها ويحمل لواءها، وثقافة الطرف الآخر والشريك في الوطن وهو المعارضة.
وعدا عن كون هذا الأمر بمثابة ترداد لطروحات نظرية عايشنا مثلها إبان أعوام الحرب الأهلية، كمثل الوثيقة الصادرة عن خلوة سيدة البير، فإنه ترداد ببغائي للكلام النظري الاميركي الممجوج والعقيم، وهو ان واشنطن زحفت إلى هذا الشرق بعسكرها لتطبق "منهجاً فكرياً" تخال أنها وحدها تملك الحق الحصري في نشره وتعميمه في أركان المعمورة وهو "نهج الديموقراطية".
وعليه فإن هذا الفريق يأتي بوثيقة ليساجل مقاومة اسرائيل تاريخاً وحاضراً، وليعمل تشويهاً بصورة هذا الفعل الأصيل، والضارب الجذور والذي احتاج لترسيخه وتأصيله فيضاً من دماء الشعب اللبناني وتضحياته على مدى عقود، والتشويه المقصود والمتعمد في الوثيقة، هو من خلال ربط المقاومة "بالمحور الايراني" الذي يطل وفق زعم واضعي الوثيقة بظله على المنطقة من موقع مواجهة "العرب المعتدلين"، وهو منطق يحمل سخفه وعقمه وسطحيته في ذاته، لأن مقاومة المشروع الإسرائيلي لم تنشأ بالأمس القريب،أو لم تبرز عندما قرر "عرب الاعتدال الهرولة" لمصالحة العدو الصهيوني كيفما اتفق وبأي ثمن، ولكن ليرتاحوا هم في أسرع وقت ممكن مما صاروا يرونه "عبء" المواجهة، وليزيحوا عن كواهلهم ما أصبحوا يدرجونه في خانة أنه "وزر" القضية الفلسطينية، فتكون النتيجة لهذا المنطق السياسي والفكري الأعوج، المساواة بين "اسرائيل" الكيان المغتصب المزروع عنوة واغتصاباً في قلب الوطن العربي، وبين إيران الإسلامية، التي هي بشهادة الجميع الثورة التي أعطت للقضية الفلسطينية زخماً، وساهمت في رفد الشعب الفلسطيني بأسباب الدعم المعنوية والمادية.
إن هذه الوثيقة، لمن يقدر له أن يقرأها بظروف ظهورها، وخلفيات سطورها، تأتي ببساطة كلية، لا لتكون مادة سجالية بين كتلتين سياسيتين متعارضتين (المعارضة والموالاة) ولا لتؤسس لحوار حقيقي بين متشاركين في وطن واحد، انما جاءت، لأن أصحابها باتوا يقيمون على يقين أو اعتقاد فحواه أن لحظة قطف ثمار مسعاهم لنقل البلد من هوية إلى أخرى، ومن ضفة إلى أخرى، قد حانت لتصير حقيقة واقعة، فلم يعد خافياً على أحد، أن هذا الفريق مطلق هذه الوثيقة، سعى جاهداً منذ بداية تكونه وظهوره إلى الواجهة إلى هدف جوهره واحد ومظاهره وآلياته وشعاراته متنوعة، وهو القطع بين تاريخ لبنان المقاوم، وبالتحديد التاريخ الذي بدأ في الجنوب ولبنان بعد هزيمة عام 1967، وصولاً إلى انتصار تموز عام 2006، وبين المرحلة التي يعتقد هذا الفريق أنها آتية لا ريب فيها، وهي سيادة "نهج محمد أنور السادات"، وفق ما قاله أحد منظري هذا الفريق، ليصبح هو "الوطني" والآخر وبالتحديد المقاوم "خائناً" ومرتبطاً بالمحور المعادي، وعليه لم يكن لدى هذا الفريق في الآونة الأخيرة من مهمة "كبرى" الا مهمة تشويه كل ما له علاقة بالمقاومة فكراً ونهجاً وممارسة، ونزع أي هالة إعجاب تكونت حولها بفعل نضالها، وتسفيه كل ما له صلة "بالعصر" الذي كانت فيه هذه المقاومة تسجل في سجلها الذهبي انتصارات يومية لها، وهزائم متكررة للعدو الصهيوني.
وأكثر من ذلك ذهب هذا الفريق في رحلة شاقة، لتسجيل "غلبة" على شريكه في الوطن، فرفض منطق الشراكة، ومقتضياتها وآلياتها بمكابرة ممجوجة خسّرت الوطن الشيء الكثير، ولدفع المقاومة بما تمثل من رمزية إلى متاهات الداخل لإغراقها فيه تحت عنوان أنها "ثقافة عنف" كما ورد في متن الوثيقة.
وحسب الخبراء بالعقل الاميركي، فإن "الفريق الشباطي" حاول دائماً أن يكرر النهج عينه الذي اتبعه الاسرائيليون والاميركيون بعد أحداث 11 ايلول في اميركا، وهو "المماهاة" بين المقاومة الفلسطينية التي كانت في ذروة مسيرتها آنذاك وبين "الإرهاب"، ليسهل بالتالي على الإسرائيلي التقليل من حجم التعاطف الدولي معها، ومن ثم ليسهل عليهم توجيه ضربة عسكرية لها تقعدها عن الفعل وعن تسجيل الانتصارات.
ولذا فإن الفريق الشباطي سعى دائماً للمماهاة بين المقاومة و"الوطن الساحة"، وبين المقاومة و"ثقافة العنف"، وهو في وثيقته الأخيرة يسعى بكل ما أوتي من براءة الصياغة (وهي صياغة فاشلة وسطحية) أن يظهر هذه العلاقة ويعزف على هذا الوتر، ويتلاعب بالعواطف على أساس أنه هو من عشاق "ثقافة الحياة". وكأن "ثقافة الحياة" ـ التي يرفع زوراً وبهتاناً شعارها ـ تعني الاستقالة من كل الهموم الوطنية والقومية، والاستسلام الكلي لواقع لا يخفي الآخرون أنهم يريدون تكريسه وجعله هويتهم الدائمة.
وليس جديداً القول إن هذه المنظومة الفكرية والنظرية، القائمة على الاستسلام المطلق تحت شعار أن قوة لبنان في ضعفه، وعلى تمجيد ثقافة الحياة كيفما كانت، إلا أن تكون دفاعاً أو قيماً عليا أو مطالبة بحق مشروع، فانكسر الوطن وتشظى طوال أعوام الحرب الأهلية السبعة عشر، وهذه المنظومة هي عينها حاول أمين الجميل تطبيقها بعد عام 1982 إبان وصوله إلى سدة الرئاسة الأولى على متن الدبابة الاسرائيلية، فحاول ربط نفسه بالمحور الاسرائيلي ـ الاميركي ربطاً لا انفكاك بعده، فإذا برياح والواقع تقلب الأوضاع رأساً على عقب بعد أقل من عامين.
ما من رمز من رموز المعارضة، التي يزعم واضعو وثيقة "البيال" أنهم أرادوها رسالة بينة، لها في هذه "اللحظة المصيرية" (كما ورد في مقدمة الوثيقة نفسها) إلا وكان رد فعله المباشر والأولي، أن هذه الوثيقة لم تكتب لتكون يداً ممدودة للشريك في الوطن، بغية الاتكاء عليها لاخراج الوطن من أزمته، بل كتبت لتكون أحد بنود توجهات هذا الفريق في المرحلة المقبلة، لتقطيع الوقت وملء الفراغ الحاصل على نحو "يبرئ" ذمة هذا الفريق، ويصير بإمكانه الادعاء أنه أدى قسطه لمحاورة الآخر، وليبرر بالتالي القيام بخطوات أخرى، إذا كان في امكانه القيام بمثل هذه الخطوات على صعيد قهر الآخر وتسجيل غلبة عليه.
وعموماً قد تبدو وثيقة البيال سخيفة المضمون، ضحلة الأفكار والرؤى، وهي عبارة عن جملة "عواطف" انشائية سطحية، لكن الخطورة التي تنطوي عليها ان هذه الوثيقة تعكس عدم رغبة هذا الفريق بالمضي قدماً نحو محاورة جادة للفريق الآخر، وتعكس أيضاً حقيقة إلى أي درك ومستوى فكري منحط، هبط اليه هذا الفريق من خلال تمهيده لفكرة أنه هو القابض على ناصية الحقيقة، وكل ما عداه مشكوك بوطنيته وبتاريخه ونهجه وتطلعاته، وأنه يقدم نفسه ممثلاً لمحور يدرك تمام الإدراك انه محور ليس بإمكانه أن يربح، وأنه يروج لرؤى بالية جربت سابقاً وأخفقت من قبل التعددية، وان على الآخرين تقديم طلب انتساب إلى "رؤيته" الشمولية.
انها فعلاً وثيقة لا تساوي قيمتها قيمة الحبر الذي كتبت به والورق الذي سطرت عليه.
ابراهيم صالح
الانتقاد/ العدد1259 ـ 21 آذار/مارس 2008