ارشيف من : 2005-2008
"المال مقابل الطفولة".. معادلة ينشّطها "الفراغ" الاقتصادي
تتسابق على "طريق صيدا القديمة" في الشياح مجموعة من الأطفال في ثياب رثّة، يطرقون شبابيك السيارات ويعرضون بيع أنواع من العلكة، أو يمسحون زجاج السيارات مقابل بعض النقود، وغالباً بدونها.
اما فادي فيقف منتظراً تحت المطر مرتدياً قميصاً مهترئاً، يرفع أكمامه عن ساعديه غير آبه بالبرد.. هو في هذه الحالة على أتم الاستعداد لتلبية أوامر "معلّمه" ميكانيكي السيارات.. وليس بعيداً عنه عشرات من أمثاله، بينهم من يعمل في الحدادة أو النجارة، بمن فيهم وسيم ماسح الأحذية "الشاطر" كما يلقبونه، لكن "ولا من يسأل"!!
أينما تمشِ في لبنان تستوقفك مشاهد أطفال كهؤلاء، ينظرون إليك بعين كأنهم يطلبون المساعدة. تساعدهم او تستخدمهم لإصلاح عطل ما هذا شأنك، لكنْ كثيرون لا يشعرون بالمشكلة الماثلة أمام عيونهم على أنها مشكلة خطيرة.
عمالة الأطفال مشكلة مزمنة ما زال يعاني منها حتى اليوم الكثير من المجتمعات، وخاصة الفقيرة، ومنها لبنان، برغم مساعي منظمة الأمم المتحدة لحلها جذرياً، لكن على طريقة "الحبر على الورق".
يعتبر عمل الأطفال من المصاعب التي يمكن أن تمس الطفولة من ناحية انتهاك حقوقهم في بلد يؤمن بالحرية والديموقراطية ويعمل على توفير حياة كريمة تحترم حياته الشخصية ومتطلباته، تحترم حقوقه المعيشية، والأهم الحق بالتعلم وبالنمو في بيئة نظيفة خالية من العوائق.. لكن لماذا تنتشر ظاهرة عمالة الأطفال بشكل كثيف في لبنان؟ وأي قانون يمنع الأطفال من العمل ويحافظ عليهم؟ وعلى من تقع مسؤولية عمل هؤلاء الأطفال؟ وما هي الظروف التي تدفع الأهل لتوفير عمل لهؤلاء الأطفال؟
تعود أسباب انتشار ظاهرة عمالة الأطفال في لبنان الى عوامل عدة، فالوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والمعيشي الذي يعيشه لبنان يوفر الظروف الطبيعية لانتشار هذه الظاهرة، وتساهم الضائقة المالية والتدهور الاقتصادي في تزايدها بوتيرة عالية.
تقول السيدة زينة مهنا (اختصاصية في حقوق الإنسان): "الفقر والجهل والتفكك الاسري والظروف الاقتصادية تشكل حاجزاً يمنع عبور حقوق الأطفال الى حياتهم لينعموا بها، فتتفاقم المشكلة خصوصاً بعد الوقوف عند نتائج عمالة الأطفال وما تسببه من كوارث أخلاقية واجتماعية تعود بسلبياتها ليس فقط على الفرد، وإنما أيضاً على المجتمع والوطن الذي ينتمي إليه".
وإضافة الى الأسباب الاقتصادية التي تشكل آفة اجتماعية، فإن النظام التعليمي في لبنان أيضاً يشكل معضلة مهمة يجب التوقف عندها، بعدما حصرت الدولة اللبنانية مجانية التعليم في مرحلة التعليم الأساسي فقط، دون ان توفر التعليم الرسمي للجميع.
يبلغ عدد العاملين في لبنان دون سن الثامنة عشرة حوالى مئة ألف مع اختلاف التوزيع في الفئات العمرية، "دون الثامنة عشرة ودون الثالثة عشرة"، والنسبة الكبرى من هذا العدد تتركز في الفئة العمرية دون الثلاثة عشر، موزعين في مختلف المناطق اللبنانية، وتشمل هذه الأرقام الأولاد من جنسيات غير لبنانية أيضاً.
أما على من تقع مسؤولية تشغيل هذا العدد الهائل من الأطفال، فتجيب السيدة مهنا: "المسؤولية تبدأ أولاً من المجتمع الذي لا يؤمن أدنى متطلبات الحياة للإنسان، وأولها الحق بالتعلم. ويتحمل الأهل مسؤولية تضييع مستقبل أطفالهم لأجل جني نسب قليلة من الأموال، وهذه المسألة كما تشير السيدة زينا مهنا تشكل محورا أساسيا في المشكلة، فنسبة كبيرة من هؤلاء الأطفال ينتمون إلى أسر تقيم في لبنان دون إقامة تسمح للوالد بممارسة عمله بشكل قانوني، الأمر الذي يضطر الأهل لدفع أولادهم لتأمين أقل مستوى من متطلبات الحياة اليومية. أما المسؤولية الكبرى فتقع على عاتق رب العمل الذي يستغل هذه الفئة العمرية دون تحصيل إذن لها من وزارة العمل، واستغلالها في أعمال صعبة وقاسية وإدخالها في معادلة: "الطفولة مقابل المال".
وإذا توقفنا عند مخاطر عمالة الأطفال يتمحور الجسد في قمة هذه التأثيرات، ذلك أن ظروف العمل غير الآمنة، سواء في المصانع ومجال البناء وحتى على الطرق، تعتبر عاملاً مسبباً للضغوط النفسية الرهيبة والاستغلال والقسوة، ما يؤثر سلبا في عاطفتهم وسلوكهم الاجتماعي والأخلاقي داخل أسرهم ومجتمعاتهم، ناهيك عن الانحراف والاستسلام للعادات الأخلاقية غير الحميدة، كالتدخين والمخدرات، والأخطر هو الاستغلال الجنسي لهؤلاء الأطفال، وهنا نقطة الجدل.
مقتطف من القانون اللبناني الذي يتضمن سلسلة مواد تضمن حياة الصغار وتشكل نوعاً من الحماية:
- الحدّ الأقصى المسموح به لساعات العمل هو سبع ساعات يومياً، تتخللها ساعة استراحة.
- يحظّر تشغيل الأطفال بين السابعة مساءً والسابعة صباحاً.
- يحظّر توظيف الأحداث قبل إخضاعهم لفحص طبي مجاني.
- يحظّر تشغيل الأحداث قبل إتمامهم السابعة عشرة في أعمال تهدّد حياتهم أو أخلاقهم.
جهود غائبة
وُلدت اتفاقية حقوق الطفل عام 1989 ووقع عليها لبنان في العام 1991. وتنص بنودها على احترام حقوق الطفل وخصوصاً بالتعلم، وعدم استهلاك الطفل واحترام نموّه وتأمين بيئة معيشية صالحة له تحترمه وتحترم متطلباته.
ولأن هذه الظاهرة تشكل مشكلة على الصعيد الاجتماعي للبنان، فإن جهات غير حكومية تعمل جاهدة من أجل المساهمة في الحلول. وبرغم تبني وزارة الداخلية مشروع منظمة العمل الدولية لمكافحة عمالة الأطفال ورعايتهم وتأهيلهم تربويا ومهنيا، وضمان عدم عودتهم الى الشوارع، إلاّ أن حماية هؤلاء الأطفال الذين يعملون في أماكن تهدد صحتهم وحياتهم الاجتماعية والنفسية، والأهم الأخلاقية، لا زالت رهن تحقيق الوعود، وما زال التسوّل في الشوارع يزاحم السيارات، كما تغيب الرقابة عن الذين يعملون في ظروف معيشية صعبة، وأي مستقبل ينتظر أجيال الغد! وإذا كان هؤلاء الأطفال يمثلون جزءاً من مستقبل الوطن "لبنان"، فأي مستقبل ينتظرك يا لبنان!
أمل شبيب
الانتقاد/ العدد1260 ـ 28 آذار/مارس 2008