ارشيف من : 2005-2008
الجهل الغربي في معرفة الرسول (ص) له امتداداته التاريخية
إذا ما أردنا استقراء الذهنية الغربية وتحديداً النخبوية منها، لناحية نظرتها إلى الاسلام والرسول محمد (ص)، لوجدنا أن أزمة الرسوم الدانماركية كان لها "الفضل" في نزع الأقنعة وإزالة القشور، بشكل مباشر وجلي، ويمكن استخراج العبر والاستنتاجات الكاملة منه.
التاريخ يحكم الحاضر
إن ما نراه اليوم ونقرأه في الاعلام الغربي لناحية الجهل في معرفة الرسول (ص) وسماته وصفاته وأخلاقه وكنه رسالته، لهو في حقيقته التاريخية امتداد لممارسات معرفية غربية قديمة ارتبطت في معظم فترات القرون الوسطى وحتى مطلع عصر النهضة في أوروبا بتصوير الاسلام ببشاعة والرسول محمد (ص) بتشويه وتحريف.
ولم يكن هناك وراء تلك البشاعة وذاك التشويه في التصوير أو التزوير، غير دوافع سياسية ومخاوف مردها أن الأحداث الواقعية في العالم الحقيقي من حول الغرب ـ آنذاك ـ جعلت من الإسلام قوة جبارة تهدد أساطيلها المواقع الأوروبية المتقدمة على امتداد القرون، وحتى بعد أن تعرض العالم الإسلامي للتدهور وبدأت أوروبا عصر الرقي والنهضة، لم تبارح أوروبا ذكريات الخوف من القوة الاسلامية التي كانت.
وحتى مع احتلال القوى الاستعمارية الغربية لمعظم بلدان العالم الاسلامي ظلت آلية العداء الكامن من غلاة الغربيين للإسلام تنمو، وأخذت هذه الآلية أشكالاً أكثر تعقيداً تمثلت منذ أواخر القرن الثامن عشر، على الأقل، وحتى يومنا في الفكر الاستشراقي الذي اتسم بالتبسيط المخلّ بصورة جذرية بعالم الاسلام وشخصية نبي الإسلام محمد بن عبد الله (ص)، فقد كان مرهوناً لإطار استقطابي يقسم العالم إلى قسمين، أحدهما هو "الشرق" والآخر هو "الغرب"، وكان طبيعياً أن ينتمي الإسلام إلى العالم "المختلف" أي الشرق، ومن ثم ينال النصيب الأكبر من الاختزال، وينظرون اليه كما لو كان وحدة متجانسة جامدة يتعقبونها بمشاعر بالغة الخصوصية من العداء والخوف معاً. هذا الاختزال سبق أن رصده وفنّده إدوارد سعيد في كتابه عن الاستشراق، الذي أشار فيه إلى الخيط الممتد في نسيج التفكير الغربي الذي لم يبرأ منه كثير من المفكرين والكتّاب والاعلاميين الغربيين، فعندما يتناول الروائيون والصحفيون وواضعو السياسات والخبراء موضوع الاسلام يستخدمون مصطلح "الاسلام" ليشمل لديهم جميع جوانب العالم الإسلامي الشامل والمتنوع، ويختزلونها جميعاً في جوهر خاص يضمر الشر ولا يعرف التفكير.
من هنا ربما نستطيع أن "نفهم" لماذا تم احتضان الكاتب الهندي البريطاني سليمان رشدي وآياته الشيطانية، فالغرب هنا قد وقع على "كنز" من التلفيق والتزوير والتحوير لحياة رسول الاسلام(ص)، وهل هناك أفضل من صاحب الرسالة ليكون بؤرة التصويب والقدح والذم؟
أيضاً اشتغل الإعلام الغربي "المنظّم" على رصد التظاهرات والتحركات والفتاوى التي واكبت الاحتجاج على رواية رشدي، فجرى التركيز على مسألة غياب حرية الرأي والديموقراطية في العالم الإسلامي، وهو ما حصل أيضاً بعد الرسوم المسيئة للرسول في الدانمارك، حيث وجد أصحاب نظرية "صراع الحضارات" و"الشرق والغرب" ضالتهم في التظاهرات التي اجتاحت العالم بأسره.
الرسول هو الإسلام
ان الحديث عن الاسلام هو بشكل أو بآخر حديث عن الرسول محمد (ص) والعكس صحيح أيضاً، فمهما تنوعت المصادر والاجتهادات والشبهات يبقى خاتم الأنبياء النقطة المركزية التي تدور عجلة التاريخ الإسلامي والإنساني بفلكها، من هنا لا يحتاج الإعلامي أو المفكر إلى تسمية الرسول محمد (ص) عند كل مفترق، فيعمد إلى اجتراح عناوين مثيرة مثل: القنبلة الاسلامية قادمة، الحرب الإسلامية ضد الحداثة، الحروب الصليبية ما زالت مستمرة.
لاحظ جون اسبوسيتو مدير مركز التفاهم الإسلامي المسيحي بجامعة جورج تاون بالولايات المتحدة الأميركية أن هكذا عناوين تجذب الاهتمام وتشوه الحقائق حول العالم الاسلامي وعلاقاته المتنوعة مع الغرب، من ناحية، ومن ناحية أخرى، كرّست تلك العناوين درجة الجهل المذهل بالعرب والإسلام.. لدرجة أن عديداً من الناس في دول الغرب لديهم مسلّمة بديهية، وهي أن العرب والمسلمين ما هم إلا بدو، أو أثرياء نفط يسكنون الصحراء، وأن المسلم والعربي ميالان إلى الانفعال والقتال، وغالباً ما يتم مساواة الإسلام بالحرب المقدسة والكراهية والتعصب، والعنف، وعدم التسامح، واضطهاد النساء.
"أزمة الرسوم" عود على بدء
جاءت الرسوم المسيئة للرسول في ظل غوغائية محدثة لا تعرف عن التاريخ الاسلامي، إلا بعض أسماء ورموز، وهذه الرسوم جزء من هذه الغوغائية والابتسار، بل جاءت لتخدم الإطار العام الذي يقرأ فيه الاسلام بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر).
إن طبيعة الرسومات ذاتها تظهر استخفافاً ورأياً مبطناً بالرمز الذي تعرضت له، ويُلاحظ أن الخطوط مستمدة ومُلقمة من وجوه الاسلام الآسيوي الذي ذاع صيته منذ مدتين قريبة وبعيدة.
وفي هذا الإطار يتأكد الطابع غير المسؤول والقليل الحيلة والخبرة للرسام، فهو حتى لم يستطع تفعيل مخيلته ليتخيل شكل النبي الذي اتفقت المصادر الأجنبية والعربية قبل وبعد الدعوة على دماثة خلقه وأخلاقه التي اشتهر بها.
فلو كان للرسام أدنى معرفة بالشخصية التي تعرض لها لكان على الأقل عالجها، فنياً، بما يتناسب مع شكلها التاريخي، هذا دون أن يُفرض عليه تقديس الشخصية، بل فقط معرفتها تاريخياً.
من ناحية أخرى وعلى قاعدة "رب ضارة نافعة"، فلِمَ لا تتم الإفادة مما حدث في الدانمارك وغيرها، للعمل على ترسيخ دستور أخلاقي جديد في التعامل مع المقدسات الدينية، لأنها الأكثر استباحة الآن، ولأن استباحتها ليست ضد سلطة أو نظام أو حتى مؤسسات، وإنما ضد مشاعر انسانية بحتة، لها حقها الأكيد في الحماية والاحترام. فالذين تحركوا في الشوارع في العواصم الأوروبية والعربية والآسيوية وغيرها، لم تحركهم سلطات ولم تحشدهم أحزاب، وإنما حركتهم مشاعر فياضة جرحها بقسوة استهزاء غير مسؤول بمقدساتهم.
عبد الحليم حمود
الانتقاد/ العدد1260 ـ 28 آذار/ مارس 2008