ارشيف من : 2005-2008
معضلة قطاع غزة: قصور عملياتي وضعف رؤى استراتيجية، يدفع نحو تنازل "إسرائيل"
كتب يحيى دبوق
تمثل مشكلة تساقط الصواريخ الفلسطينية على أراضي العام 1948 المحتلة، والتي وصلت أخيرا وبقوة إلى مدينة عسقلان الجنوبية، محور تجاذب النقاش البحثي في الكيان الإسرائيلي، ويتبارى كل من اليمين واليسار، وما بينهما، في اجتراح الحلول الأكثر معقولية لجهة القدرة العملياتية التنفيذية المتاحة أمام الجيش الإسرائيلي، والتي توفر اكبر قدر ممكن من المصلحة الإسرائيلية او تقاربها، وخاصة ان مشكلة صواريخ القطاع قد تحولت الى مشكلة إسرائيلية مركزية، وتمثل تحديا لسياسات الدولة العبرية ولمصالحها، سواء في الساحة الداخلية بمعنى فلسطين المحتلة والحلول المؤمل الوصول إليها مع قادة السلطة الفلسطينية، او تجاه دول الطوق وما وراءها ايضا، ما يوجب على أصحاب القرار في إسرائيل العمل على انهاء هذا الكابوس، الذي يعيق المخططات الإسرائيلية المرسومة للساحة الفلسطينية، كما انه يعيق توجه القادة الإسرائيليين نحو معالجة قضايا امنية اخرى، التي تتجاوز في اهميتها على المدى البعيد، مشكلة الصواريخ الغزاوية.
ترغب اسرائيل، وكما هو واضح من التصريحات والتعليقات والابحاث الصادرة في الكيان، ان تنهي سيطرة حركة حماس على قطاع غزة وتعزيز مكانة وقدرة السلطة الفلسطينية المتمثلة في رئيسها محمود عباس ورئيس وزرائه سلام فياض، الامر الذي يمثل مصلحة استراتيجية اسرائيلية لا لبس فيها. لكن تبين بعد الحصار والتجويع والقهر والعمل العسكري ايضا، ان الرؤية النظرية الاسرائيلية دونها عقبات في حال بدء تنفيذها، اذ يبدو بعد الاجتياح المحدود في اواخر شهر شباط الماضي، ان مبلوري القرار في الكيان الاسرائيلي قد وصلوا الى نتيجة مؤداها ان لا حل او اسلوب يوصل الى انهاء سيطرة حماس على القطاع، سواء من ناحية عسكرية بحتة، او من ناحية خليطة ما بين الهجمات العسكرية والحصار الاقتصادي والسياسي، الذي يشارك فيه بعض من العرب والغرب ايضا.
وكانت الحملة العسكرية الاخيرة على قطاع غزة، التي طالت شمال القطاع واوكل الى لواء النخبة في الجيش الاسرائيلي تنفيذها (لواء غفعاتي)، قد افهمت القادة الاسرائيليين ان لا سبيل عسكري لانهاء وتفكيك البنى التحتية للقدرة الحمساوية العسكرية في القطاع، على الرغم من الخسائر الكبيرة التي مني بها الفلسطينيون هناك. ما استتبع البحث عن وسائل اخرى، يبدو ان ليس فيها سوى الخضوع، بمعنى من المعاني، وإن بشكل غير مباشر، لحلول يدرك الاسرائيليون خطورتها، لكنها اقرب الى المصلحة الاسرائيلية من غيرها من الحلول البديلة المطروحة على طاولة البحث الاسرائيلية، التي بدورها لا توصل الى نتيجة متوخاة.
ويتجاذب اسرائيل ثلاثة طروحات "استراتيجية" للتعامل مع قطاع غزة، يظهرها تتبع المواقف والطروحات الاسرائيلية المتداولة:
اولا: اجتياح واسع النطاق، يعيد الجيش الاسرائيلي معه احتلال كل القطاع من جديد، يجري في خلاله وطوال المدة المطلوبة ميدانيا، تفكيك القدرة العسكرية لحماس وللفصائل الفلسطينية المقاومة الاخرى، قتل او اعتقال القادة التنفيذيين الميدانيين، على ان يجري التعامل مع القطاع كما يجري التعامل مع الضفة الغربية وصولا الى تشكيل واقع جديد يقلص العمليات الفلسطينية الى حد معقول يمكن التعايش معه اسرائيليا، على ان يجري ايضا انهاء كامل او شبه كامل لاطلاق الصواريخ، وايجاد حل لمشكلة تهريب الوسائل القتالية من سيناء. كما يتطلب هذا الحل جلب اكبر قدر ممكن من المعلومات الاستخباراتية الكفيلة بديمومة المعرفة الاسرائيلية لمجريات الواقع الفلسطيني في غزة، سواء الواقع الحالي او الممكن ان يتشكل بعد الخروج الاسرائيلي من القطاع.
وهذا الحل، الذي يتبناه اليمين الاسرائيلي وينادي به، يتطلب من الجيش الاسرائيلي تجنيد الاحتياط، واحتلال القطاع لمدة زمنية غير معروفة قد تمتد الى اشهر. لكنه يجد معارضة واضحة من قبل الجيش الاسرائيلي الذي لا يرى حلا لمشكلة القطاع من ناحية عسكرية بحتة، خاصة بعد دروس حرب عام 2006 على لبنان.
ثانيا: اتفاق مع حركة حماس، تتوصل اسرائيل من خلاله الى وقف اطلاق النار واطلاق الصواريخ تبعا له. ويتطلب هذا الخيار، من ناحية ابتدائية، "تنازلا" اسرائيليا عن سياساتها المرسومة لقطاع غزة ولحركة حماس تحديدا، ويلزم هذا الخيار استعدادا اميركيا للقبول به والضغط باتجاهه، كما يلزم ان تقدم مصر المساعدة المباشرة، إن لجهة التفاوض غير المباشر او لجهة رعاية و"حماية" الاتفاق المتشكل، وخاصة ان لدى القاهرة دورا اساسيا تلعبه في هذا الشأن، يتعلق بمنع تهريب الوسائل القتالية من سيناء، وتحديدا الصاروخية منها، باتجاه قطاع غزة.
يمثل هذا الخيار حلا على المدى القريب وربما المتوسط ايضا، لكنه خطر جدا على المدى البعيد لناحية امكانية تواصل تعزيز قدرة حماس والفصائل الفلسطينية الاخرى لتسلحها، بوسائل قتالية اكبر حجما وقوة من القدرة الموجودة حاليا.
ثالثا: الخيار الثالث يتعلق باجتياح جزئي او واسع النطاق، يعقبه اتفاق لوقف اطلاق النار، بعد تلقي حماس ضربة كبيرة جدا. وهو خيار خليط ما بين الخيار الاول والثاني، وهو مبني على ضرب الوعي الفلسطيني وتفعيل نظرية المؤثرات، أي ضرب حماس الى درجة تدفعها الى تقبل الاملاءات.
لدى كل خيار من الخيارات الثلاثة المطروحة، عوائق:
في الخيار الاول، أي اجتياح واسع النطاق لقطاع غزة، دونه عقبات غير قليلة يقدّر الاسرائيليون انهم سيواجهونها، ولا يبدو ان لديهم حلا لها.
من ناحية ابتدائية، يوجب العمل العسكري الشروع في اجتياحات موضعية محدودة، تسهيلا لتليين المواقف الدولية التي يمكن ان تواجهها اسرائيل نتيجة للمجازر والصور المرعبة التي ستبث حول العالم. وهو ما كانت اسرائيل قد عمدت اليه في الاجتياح الجزئي مؤخرا في منطقة جباليا شمالي القطاع، حيث اشيع لدى المعلقين العسكريين الاسرائيليين ان هجوم لواء غفعاتي كان درجة من اربع درجات مقبلة قبل الاجتياح العسكري الكبير.
الاجتياحات المحدودة تعني منع إطلاق الصواريخ من المناطق المحتلة تحديدا، دون انسحاب ذلك على المناطق الاخرى، وبنتيجة ذلك تبقى للفلسطينيين القدرة على إطلاق الصواريخ من تلك الاماكن، أي خروج الجيش الاسرائيلي تمهيدا لاجتياح موضعي اخر، لكن مع ابقاء على تساقط الصواريخ، وفقدان لقدرة الردع الاسرائيلية، فالفلسطينيون والاسرائيليون على حد سواء سينظرون إلى مطلق الطلقة الاخيرة في أي عمل عسكري اسرائيلي كمحدد للمنتصر فيه.
وعلى أي حال، تحذر محافل عسكرية اسرائيلية من ان الاجتياح الواسع الناطق، سيتسبب بخسائر كبيرة في صفوف الجيش الاسرائيلي والمستوطنين على حد سواء، وخاصة ان الصواريخ الفلسطينية من النوع الثقيل (صواريخ الغراد) تصل إلى شعاع يشمل عددا كبيرا من المستوطنات ومدينة عسقلان أيضا، بما يعني وضع اكثر من ثلاثمئة الف مستوطن تحت رحمة هذه الصواريخ.
من جهة ثانية، يعني الاجتياح الواسع النطاق، وجوب البقاء في قطاع غزة لاشهر للوصول إلى واقع ميداني "نظيف" من امكانيات وقدرات فلسطينية للتحرك من جديد ما بعد الانسحاب الاسرائيلي، وهو واقع متعذر على الاسرائيليين كما يعترف المعلقون والمحللون العسكريون في الكيان، لان حجم وشكل وتوزع الفلسطينيين في القطاع يدفع المقاومين وغير المقاومين أيضا، إلى تحويل غزة لعراق جديد، لا يعرف الاسرائيليون من اين يتلقون الهجمات بموجبه. بمعنى اخر، يتطلب اجتياح قطاع غزة ايجاد نقطة خروج استراتيجية وايجاد جهة امنية ما تكون قادرة على مواصلة قمع الفلسطينيين ومنع اعادة تشكل الواقع الحالي من جديد، ولا يبدو ان اسرائيل قد وجدت هذه الجهة الدولية أو العربية أو المختلطة، التي لديها الرغبة والقدرة على حد سواء، لحراسة امن اسرائيل، في مهمة غير معروفة النتائج.
الخيار الثاني، أي خيار الاتفاق مع حماس على وقف اطلاق النار، فدونه ايضا عقبات ليس اقلها الامكانية المعقولة والمرتفعة لتراكم القوة العسكرية للفصائل الفلسطينية في القطاع، باعتبار ان رفع الحصار وايقاف الهجمات والاغتيالات، سيدفع الفلسطينيين اكثر نحو التفرغ لتهريب السلاح من سيناء وتعزيز قدراتهم تحسبا لانهيار هكذا اتفاق، وخاصة ان الامور تتجه لعدم ضم الضفة الغربية للاتفاق المنشود، وهذا يعني بدوره امكانية اشتعال المواجهة من جديد. ما يعني ان اسرائيل "تشتري" هدوءا آنيا على حساب تراكم قوة عدوة على حدودها، يمكن ان تندلع معها مواجهة في المستقبل ويكون ثمن التعامل معها اكبر بكثير من الثمن الحالي.
في خيار وقف اطلاق النار مع حماس، مجازفة اسرائيلية بخسارة امكانية استغلال "انبطاح" السلطة الفلسطينية، حيث ان هذا الخيار يبقي على مكامن القوة في يد الفلسطينيين ومنع عباس من تسهيل وتمرير اتفاقات تنهي القضية الفلسطينية من ناحية عملية، وهذا بالتأكيد لا يتوافق مع المصلحة الاسرائيلية.
كما يؤثر هذا الخيار تراكما جديدا للقوة لدى اعداء اسرائيل، يضاف الى الواقع المتشكل بعد حرب تموز عام 2006، والهزيمة التي لحقت بالجيش الاسرائيلي في تلك الحرب، حيث يشير الاتفاق الى التأكيد على امكانية نجاح الخيار المقاوم والصمود امام الترهيب والوعيد الاسرائيلي، الامر الذي سينعكس سلبا على قدرة الردع الاسرائيلية ويمثل رسالة ضعف تبثها اسرائيل الى الجبهات الاخرى الاكثر خطورة، وتحديدا في الجبهة الشمالية للكيان الاسرائيلي.
فيما خص الخيار الثالث، الذي يمثل الخيار الاول لكن مع ادراك عدم نجاعته، دونه عقبات مشابهة لعقبات الخيار الاول، يضاف اليها انه خيار مجازفة يدرك اصحابه عدم القدرة الميدانية على تحقيقه، لكنه يمثل نوعا من اجتراح لحلول في اطار الامكانيات النظرية.
والخيار الثالث هو حل اجتراري يكرر نفسه كطرح في اسرائيل برغم تأكد عدم نجاعته. ومن المفيد الاشارة الى ان من يطرح هذا الحل يدرك ان لا حل عسكريا لمشكلة قطاع غزة، اضافة الى ادراكه ان لا حل الا باتفاق مع حماس، وبالتالي يهدف من خلط الخيارين الى الحاق اكبر ضرر في البنية التحتية للفصائل المقاومة في غزة، بحيث تخرج القوات الاسرائيلية من القطاع وكل الفصائل في حالة ضعف عسكري ومعنوي، على ان يصار في حينه الى الاتفاق على وقف لاطلاق النار، تكون لاسرائيل اليد العليا فيه من ناحية الشروط والاملاءات.
على أي حال، بدأت اسرائيل، كما هو ظاهر من تعاطيها الميداني والسياسي، في سلوك الخيار الثاني، أي خيار اتفاق على وقف اطلاق النار مع حركة حماس والفصائل الفلسطينية الاخرى، ويتوجب القول هنا ان هذا الخيار يعني انهيار استراتيجية اسقاط حماس اساسا، ويعني ايضا اظهارا لمدى الضعف الذي وصلت اليه اسرائيل بعد حرب عام 2006، ويبدو ان التداعيات السلبية التي نتجت عن هذه الحرب على متخذي القرار في اسرائيل وعلى المجتمع الاسرائيلي ايضا، اكبر بكثير من أي تصور يمكن التعبير عنه بالكلمات، فمن لا يقوى على اتخاذ قرار بغزو غزة، لا يمكنه اتخاذ قرارات اكثر دراماتيكية في جبهات اخرى.
الانتقاد/ العدد1260 ـ 28 آذار/ مارس 2008