ارشيف من : 2005-2008
قمة دمشق دلالات النجاح .. وأبعاده
كتب مصطفى الحاج علي
لماذا اتخذت قمة دمشق كل هذه الأبعاد التي اتخذتها؟
وهل يجوز القول عن رابحين وخاسرين في القمة؟ وإذا كان الأمر كذلك ـ وهو كذلك ـ فمن الذي ربح، ومن الذي خسر، ولماذا؟
ثم، هل لقمة دمشق ما بعدها، وما هي ملامح هذا الما بعد؟ كان بالامكان أن تكون قمة دمشق مجرد حدثٍ سياسي عابر، يشبه إلى حدّ كبير القمم العربية السابقة. إلا أن واشنطن وعربها وأتباعها في المنطقة أرادوا تحويل مجرد انعقاد القمة إلى نقطة اشتباك سياسية ثقيلة مع دمشق، تتجاوز في دوافعها وأبعادها نطاق القمة نفسها، إلى ما يعني نجاح انعقادها، وخروجها بنتائج معينة، من رمزية سياسية بالغة الدلالة في هذا التوقيت السياسي العام في المنطقة.
فواشنطن وأتباعها من العرب، أرادوا تحويل موعد ومكان انعقاد القمة، ثم القمة نفسها، إلى مادة مساومة سياسية مع دمشق، تسحب نفسها على العديد من العناوين والملفات الحساسة في المنطقة.
أولاً: أرادوها نقطة مساومة حول علاقة دمشق بإيران، وفي هذا الإطار، جرى شن حملة إعلامية وسياسية مكثفة تستهدف النيل من صورة وموقع ودور دمشق القومي ـ العربي، حيث جرى تصويرها بصورة التابع والملحق لإيران، وأكثر من ذلك جرى تقديم دمشق كما لو أنها مستعمرة إيرانية.
كما جرى التلويح لدمشق بتهديد خطير في شكله ومضمونه، قوامه سحب الغطاء العربي ـ السني من فوق النظام في سوريا، وذلك كتلطيف خبيث لاستراتيجية العزل التي تقودها واشنطن ضد دمشق عربياً ودولياً.
الهدف هنا واضح ويتمثل بدفع دمشق لفك تحالفها طوعاً أو مكرهة مع إيران، والانسحاب بالتالي من محور المقاومة والممانعة للمشروع الأميركي في المنطقة، لمصلحة محور الاعتدال العربي بحسب الوصف الاميركي له، وحينئذٍ ستكون دمشق محل ترحيب كبير على هذا الصعيد.
ثانياً: أرادوها أيضاً نقطة مساومة حول مسألة الصراع العربي ـ الإسرائيلي عموماً، والفلسطيني ـ الإسرائيلي تحديداً، والمطلوب هنا واضح أيضاً، ويتمثل بأن تنسى دمشق حتى مبادرة بيروت ـ مبادرة الملك السعودي عبد الله ـ لحل القضية الفلسطينية، لمصلحة رؤية بوش ليهودية الدولة، والمسار الجديد للحل الذي دشن في أنابوليس.
ولا يخفى على أحد هنا، أن بوش على عجلة من أمره، ويريد أن يرى تسوية كيفما كان للمسار الفلسطيني ـ الإسرائيلي قبل مجيئه مرة أخرى للمنطقة للاحتفال بذكرى قيام الكيان الإسرائيلي في أيار المقبل. هذه التسوية التي يراد لها أن تشكل مدخلاً لصورة جامعة في تل أبيب تجمع إلى قادة الكيان الإسرائيلي زعماء عرب أميركا "المعتدلين"، ومدخلاً أيضاً لدفن أي تسوية نهائية على المسار السوري ـ الإسرائيلي يتيح عودة الجولان بالكامل إلى سوريا، ومدخلاً لأخذ لبنان عنوة إلى تسوية مذلة مع الكيان الصهيوني، ومدخلاً أخيراً لحرمان محور المقاومة في المنطقة من بعده الفلسطيني، تمهيداً لاحتوائه استراتيجياً ومحاصرته في دوائر ضيقة.
ثالثاً: أرادوها أيضاً نقطة مساومة حول ملف الأزمة اللبنانية، فربطوا المشاركة ابتداءً بالتدخل السوري لتسهيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ليعودوا فيعلقوها على توجيه دمشق دعوة مباشرة إلى رئيس الحكومة اللاشرعي فؤاد السنيورة، هذا الأمر الذي تجاوزته دمشق ببراعة فائقة.
عندما عجز هؤلاء في منع انعقاد القمة في مكانها وفي وقتها، لجأوا إلى آخر ما في جعبتهم من أوراق، متمثلة في نقطتين أساسيتين: الأولى، تخفيض مستوى التمثيل إلى الحد الأدنى والثانية ضخ أكبر قدر ممكن من التوتر في أجواء ومناخات القمة، بهدف الضغط على أعصاب القيمين عليها، لإخراجهم عن طورهم، وتفجير القمة حينئذٍ من الداخل.
إلا أن القيادة السورية استطاعت بحكمتها تجاوز كل هذه الأفخاخ والمطبات لتنجح في إنجاز جملة من الأمور أبرزها:
أولاً: عقد القمة في وقتها ومكانها، وتسلمها لرئاستها، بسلاسة وهدوء، نمّ عن تعاطٍ عالٍٍ من المسؤولية التي تليق بقيادات الدول.
ثانياً: كسر كل جهود أميركا وعربها، وإفشال كل مساعيهم لإسقاط القمة، فمعركة دمشق كانت أولاً وأخيراً مع واشنطن، وهي ربحت هذه المعركة بامتياز، يعزز من صورتها كدولة ممانعة في المنطقة، ومن موقعها العربي، بل كعاصمة للعروبة.
ثالثاً: تكريس المواقف العربية السابقة، والحيلولة دون أي محاولة للانحدار بها نحو السقوف الأميركية المرسومة فلسطينياً ولبنانياً وحتى على صعيد العلاقات العربية ـ الإيرانية.
رابعاً: فرض مناخ عربي جديد، يتجاوز واقع التوتر والانقسام، والجهد الأميركي المبذول لتعميقه، نحو فتح صفحة من الهدوء والحوار كطريق لتسوية الخلافات البينية.
خامساً: تكريس الحل العربي للأزمة اللبنانية، بما يقطع الطريق على المحاولات الأميركية وبعض العربية، وحلفائهما في الداخل، لإفشاله تمهيداً لإعادة تدويل الأزمة اللبنانية، وأخذها نحو مستويات جديدة من التوتر.
سادساً: تثبيت السقف العربي لمعالجة قضية الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، والصراع العربي ـ الإسرائيلي عموماً من خلال تأكيد الالتزام بالمبادرة العربية في مقابل رؤية بوش التهديدية، ومسار أنابوليس.
سابعاً: تثبيت الحوار كمدخل وحيد لمعالجة الخلافات والانقسامات الفلسطينية ـ الفلسطينية، في مقابل كل الحواجز والموانع التي تعمل واشنطن والكيان الاسرائيلي على بنائهما بين الأطراف الفلسطينية المتواجهة، لقطع الطريق على أي تفاهم أو تسويات بينية، وحصر الحلول بطريق واحد هو الحرب الأهلية الفلسطينية.
ثامناً: حافظت القمة على لغة هادئة وحوارية مع إيران، تنطلق من مبادئ حسن الجوار، والاخوة الاسلامية، والعلاقات التحالفية، القائمة على أرضية مواجهة التهديدات والتحديات المشتركة، وذلك في مقابل سعي واشنطن لتوتير هذه العلاقات ودفعها إلى حدود الصدام.
خلاصة القول، إن القمة نجحت نجاحاً يحتسب للقيادة السورية التي بذلت جهوداً استثنائية في هذا الإطار، متغلبة على كل الصعوبات والعراقيل، ومتجاوزة كل الضغوط والتهديدات والرسائل. ولا شك، أن ما بعد القمة سيكون غيره ما بعدها، لا سيما بعدما انكشفت حدود التهويل، وسقوف الضغوط، فهل سيتعظ الاميركيون وأدواتهم.
الانتقاد/ العدد1261ـ 4نيسان/ أبريل 2008