ارشيف من : 2005-2008
بيلمار يكشف في تقريره الأوّل معطيات جديدة في اغتيال الحريري: اتهام شبكة بالجريمة.. وبعض أفرادها مرتبطون باعتداءات نفّذت سابقاً
رفض رئيس لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري القاضي الكندي دانيال بيلمار، أن تكون إطلالة تقريره الأوّل، والعاشر في قائمة التقارير التي رفعتها اللجنة منذ إنشائها قبل 33 شهراً، إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، خالية من المعلومات والمفاجآت، وذلك تمييزاً لعمله ولنفسه عن سلفيه الألماني ديتليف ميليس والبلجيكي سيرج برامرتز.
وجاءت هذه المعطيات الجديدة لتضيء جوانب مخفية وغير معلومة سابقاً في هذه الجريمة، ويمكن تلخيصها على الشكل التالي:
أوّلاً: كشف التقرير الصادر يوم الجمعة الواقع فيه 28 آذار/ مارس من العام 2008، في الفقرة الخامسة والعشرين من فقراته الثلاث والستين، أنّ الضالعين في الاغتيال مجموعة أفراد يشكّلون شبكة، بعضهم مرتبطون بجرائم أخرى، وكانوا يعملون قبيل تنفيذ مآربهم، وهو ما كان لمّح إليه برامرتز في أحد تقاريره حينما وسّع بيكار الفرضيات والاحتمالات لديه حول إمكانية تورّط غير جهة في الجريمة، منها الأصولية السنّية ممثّلة بتنظيم "القاعدة"، متخطّياً الحدود التي رسمها له سلفه صاحب الخبرة العريقة في التضليل، ميليس، بتوجيه الاتهام مباشرة إلى سوريا دون سواها من الأطراف والدول.
وهذا المعطى غير مسبوق، ويؤكّد بما لا يقبل الشكّ أنّ نظرية برامرتز كانت صائبة في إعادة وضع التحقيق على السكّة الصحيحة، بعدما تعمّد ميليس السير وفق خطّة معدّة سلفاً في سراديب استخبارات دولية، وقدّمت له لينفّذها، فيعطيها غطاء قضائياً لما للقضاء عموماً من مصداقية وهيبة لدى الرأي العام، حتّى لو كان القاضي المعني فاسداً ولا يتمتّع بالمواصفات الرئيسية للقاضي النزيه والمستقلّ. بينما هي في حقيقة الأمر مجرّد تلفيق يهدف إلى امتطاء موجة الاتهام السياسي والنفاذ منه إلى إسقاط كل مقوّمات الدولة التي كانت قائمة في لبنان قبل اغتيال الحريري، ولا سيّما منها الأمن والاستقرار، وهو ما يمهّد للاستيلاء على السلطة والحكم.
ولذلك كان تركيز ميليس على توقيف الضبّاط الأربعة اللواءين جميل السيد وعلي الحاج، والعميدين مصطفى حمدان وريمون عازار، الذين كانوا يشكّلون النواة الأمنية في البلد، وبالتالي الإيحاء بأنّ النظام الأمني الذي كان قائماً وموجوداً ومرتبطاً بسوريا متورّط في الاغتيال، وذلك لكي تسهل من خلاله عملية الربط بين اتهام هؤلاء الضبّاط والمخابرات السورية، في محاولة ماكرة للقول بأنّ النظام السوري متدخّل ومساهم، وإن بطريقة غير مباشرة، باعتبار أنّ قرار تصفية رجل مثل رفيق الحريري لا بدّ من أن يكون متخذاً من أعلى المستويات ورأس الهرم وقمّة المسؤوليات في سوريا.
وهذا ما يفسّر تجنيد أشخاص سوريين أو كانت لهم علاقة ما بالعمل المخابراتي ولو مع "إسرائيل" للقيام بهذه الوظيفة. فجنّد في البدء الشاهد السوري محمّد زهير الصدّيق، وتبعه مواطنه هسام هسام، فمواطنهما ميشال جرجورة، ثمّ الفلسطيني عبد الباسط بني عودة، فعودة مجدّداً إلى الجنسية السورية من خلال الشاهد أكرم مراد، قبل أن يظهر بصورة ملموسة زيف ادعاءاتهم ويسقط القناع عن وجوههم وتبرز صورتهم الواقعية على أنّهم شهود زور زوّدوا بالمعلومات المغلوطة، وطلب منهم ارتكاب جرائم تقديم شهادات كاذبة لقاء حفنة من الأموال.. وهذا الأمر يمثّل قمّة الغباء، إذ كيف يمكن لإنسان أن يقود نفسه إلى التهلكة والسجن؟
شبكات تفجيرات أمنية
ثانياً: يقول التقرير في فقرته السادسة والعشرين ان شبكة اغتيال الحريري كما يصفها، وهو تعبير ينمّ عن الجزم والتأكيد، وإلاّ لما استخدمه بيلمار في صياغة تقريره، كانت موجودة قبل اغتياله، وهذا ما فسّر بأنّ المقصود به هو عدد من الأشخاص الذين كانوا منخرطين في غير شبكة عاثت بالبلاد فساداً وتخريباً في الفترة السابقة. وتظهر مراجعة "أرشيف" الأحداث في لبنان أنّ سلسلة تفجيرات وقعت في غير منطقة خلال العامين 2003 و2004، وأثبتت التحقيقات مع الموقوفين في هذه الأحداث ومن ثمّ المحاكمة العلنية لهم، أنّهم رموا من وراء هذه الجرائم لتقديم أوراق اعتماد لدى تنظيم "القاعدة" بعدما بات واضحاً أنّهم من ذات المدرسة والتفكير العقائدي الموسوم بالسلفي.
ثالثاً: يشيد التقرير في فقرتيه التاسعة والأربعين والخمسين على التوالي، بالتعاون السوري الذي يتواصل بطريقة مرضية. وقد اختلف تعاطي سوريا مع اللجنة خلال قيامها بمهمّتها وتغيّر بشكل تدريجي، والسبب يكمن في تبدّل لغة التخاطب بينهما، وتلاشي الهواجس والحواجز التي نصبها الألماني ميليس استباقاً لأيّ تحقيق جدّي وعادل وشفّاف، ولذلك بدأت معاملة سوريا للجنة باردة وخفيفة ومليئة بالشكوك، ثم ما لبثت أن صارت خصبة وأكثر انفتاحاً ومرونة.
البراهين
رابعاً: يدحض التقرير في فقرته الثامنة والخمسين بطريقة غير مباشرة، كلّ المحاولات والشائعات التي دأب غير مسؤول أميركي ولبناني من قوى 14 شباط/ فبراير على التلفّظ بها صبحاً ومساءً، بتحديد موعد بدء مجريات المحاكمة في هولندا في الشهر الفلاني أو الشهر الفلاني، فإذا بالقاضي بيلمار، وهو المعيّن مدعياً عاماً للمحكمة ذات الطابع الدولي لمحاكمة الجناة، يشدّد على أنّه لن يصدر قراره الاتهامي ما لم يتوافر لديه البرهان الساطع على تورّط هذا الشخص أو ذاك، وإذا ما اقتضت الحاجة إعادة النظر في هذه التحقيقات فإنّه لن يألو جهداً لإجراء المزيد منها، في سبيل الوصول إلى الحقيقة المطلوبة.
ولذلك يلمس من يقرأ تقريره، أنّ بيلمار يصرّ على أن يكون حيادياً وموضوعياً وشفّافاً في تحقيقاته من خلال التأكيد في الفقرة الثانية والستين، أنّ التحقيق ينبغي أن يظلّ مسيّراً بالوقائع والبراهين، ولا يمكن أن تستند استنتاجاته إلى الشائعة أو الافتراض.
وهذا ما يرجوه اللبنانيون الذين ذاقوا المرارات من جرّاء تداعيات اغتيال الحريري عليهم وعلى وطنهم.
علي الموسوي
الانتقاد/ العدد1261ـ 4نيسان/ أبريل 2008