ارشيف من : 2005-2008

قمة التحدي لأميركا

قمة التحدي لأميركا

لم تحظ قمة عربية في السنوات القليلة الماضية بهذا القدر من المتابعة والاهتمام كما حصل مع القمة التي استضافتها دمشق مؤخراً في التاسع والعشرين والثلاثين من شهر آذار/ مارس المنصرم. مرد ذلك ليس الى القرارات التي كان يمكن ان تخرج بها، ذلك ان طبيعة النظامين الاقليمي والدولي الراهنين تتجاوز فعاليات المؤسسات الاقليمية والدولية على السواء لمصلحة الدول المهيمنة على الشأن العالمي، فضلاً عن حال الانقسام والتصادم العربي ـ العربي التي تجرد العرب من فعاليتهم، وهم اساسا موزعون حالياً بين محورين: واحد يتبع للولايات المتحدة وينخرط بتلبية مصالحها، وآخر يتولى مهمة الممانعة والمقاومة في مواجهة المشروع الشرق أوسطي الجديد الذي تقوده واشنطن.
وعليه فقد كان التحدي يتمثل بمجرد انعقاد القمة في مكانها، اي العاصمة السورية، وفي زمانها المحدد، وهو تحدّ استخدمت فيه مختلف انواع الضغوط من ترهيب وترغيب، مورست على مختلف الدول العربية لمنعها من المشاركة، أو على الاقل تخفيض تمثيلها، ولم تتوان الادارة الاميركية عن اطلاق تصريح رسمي دعت فيه هذه الدول الى التروي في اتخاذ قرار الحضور. على ان ما تكشف لاحقاً بيّن حجم الارهاب الذي مورس الى حد ان زعيما عربيا عرض امام الرئيس السوري بشار الاسد فور وصوله الى مطار دمشق نص المذكرة التي عممتها الادارة الاميركية على حلفائها في المنطقة، وتدعوهم حرفيا الى مقاطعة القمة. وكشفت المعلومات ان السفراء الاميركيين في بعض العواصم العربية قاموا بتسليم المذكرات الصادرة عن وزارة الخارجية الاميركية بأنفسهم الى قادة هذه الدول، وان رئيس احدى الدول تسلم المذكرة من السفير الاميركي يرافقه قائد الاسطول السادس، في رسالة واضحة المغزى.
ومن هذه المعطيات انه وبعد ان كان ابلغ المسؤولون عن المراسم في دمشق بتحضير استقبال عالي المستوى من قبل الخارجية الاردنية باعتبار ان مشاركة الملك الاردني عبد الله الثاني كانت محسومة، حتى شكل غيابه مفاجأة، ليتبين لاحقاً انه اوفد رئيس الديوان الملكي الى دمشق ليشرح حجم الضغوط التي يتعرض لها كي يتغيب عن القمة، ويستقر في النهاية على تمثيل بلاده بسفيرها لدى الجامعة العربية، مع الاشارة الى ان وزير الخارجية الاردني حضر اجتماعات المجلس الوزاري يوم الخميس في سابقة غير مألوفة، لينسجم الموقف الاردني لاحقاً مع ما فعلته السعودية، فيما اكتفت مصر بوزير الشؤون البرلمانية مفيد شهاب.
وفيما كان الغياب المفاجئ وغير المحسوب للرئيس اليمني علي عبد الله صالح محل استياء القيادة السورية التي اهتمت كثيراً بمبادرة صنعاء للمصالحة بين حماس والسلطة الفلسطينية، وتحمست لطرحها وتبنيها كمشروع حل عربي وليس فقط يمني، فان التأويلات بشأنه توزعت بين مراعاته لحساسيات عربية عربية، وبين تبرير الغياب للرفض الاميركي للمبادرة، وبين من ربطها بلقاء صالح الأخير مع القيادة السعودية التي قامت بدورها في الضغط على عدد من الدول لمنعها من المشاركة، بعدما اعتبرتها الرياض جزءاً من الصراع السوري السعودي الذي وصل الى حد القطيعة كما ابلغ مسؤول عربي رفيع لاحد الصحافيين الذين واكبوا اعمال القمة. وقد كان واضحا ان قرار المقاطعة الذي اتخذته حكومة فؤاد السنيورة في لبنان هو قرار سعودي اميركي محض عبر عنه مسؤولو فريق الموالاة صراحة عبر نسبه الى مشورات خارجية اجروها قبل اتخاذه.
وفضلا عن جولة نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني وبعده وزيرة الخارجية كونداليزا رايس بالتزامن مع انعقاد القمة فان مصادر أمنية واسعة الاطلاعِ تحدثت عن اجتماعٍ امنيٍ اردنيٍ مصريٍ اسرائيليٍ اميركيٍ في الاونة الاخيرة لتنسيقِ المواقف وعلى رأسها اجهاض اتفاقِ صنعاء واستمرار محاصرة حماس، كجزء من اجهاض اي مبادرة تتعلق بالملف الفلسطيني الذي يستوجب ليس مجرد انعقاد قمة عادية بل قمما استثنائية.
هكذا بدت دمشق في مواجهة حملة شرسة تستهدف منعها من عقد القمة وترؤس الجامعة العربية لمدة عام كامل كجزء من عملية الضغط التي تتعرض لها عربياً واميركياً، لكن حضور اثني عشر زعيما من اصل اثنين وعشرين، شكل صفعة قوية للادارة الاميركية وحلفائها العرب، وسجل نجاحا استثنائيا للقيادة السورية تمثل لاحقاً بالخطاب الاستيعابي الذي اطلقه الرئيس الاسد وتجاوز فيه كل الخلافات وخفض التمثيل واطلق يدا ممدودة لحل الخلافات العربية ـ العربية التي كانت على الدوام تنعكس على نتائج القمم التي انعقدت.
وفي حين ربطت كل الضغوط بالموقف السوري من الازمة اللبنانية، فان الاسد كشف عن ضغوط تعرضت لها بلاده ليتدخل في الشؤون اللبنانية فرفض، مبقياً على المبادرة العربية نافذة للحل مع ضرورة مساعدة الاشقاء العرب للبنانيين الذين يبقى الحل بيدهم. وقد شكل خطاب الاسد صدمة اضافية للسعودية التي كانت هيأت وزير خارجيتها سعود الفيصل للرد مباشرة على كلام الاسد حيث كانت تتوقع ان يشن هجوماً عنيفاً على المقاطعين والمتغيبين عن مستوى القادة، فبدت الرياض مربكة، وحاول الفيصل التودد لدمشق عبر نفي الحديث عن سعي لعزلها، لكنه ألقى كل سهامه على المعارضة اللبنانية وحملها وزر عرقلة الحلول، داعياً سوريا الى المساهمة في تسوية الازمة اللبنانية، برغم ان التصريح المنشور لدايفيد ساترفيلد عن رفض واشنطن للمبادرة العربية لم يجف حبره بعد.
وبمعزل عن النتائج التي خرجت بها القمة وقاربت مختلف القضايا العربية الساخنة فان ما حصل لو حضر جميع القادة سيكون مشابها تماما لما صدر من مقررات، والتي هي في المحصلة انعكاس للواقع العربي الرسمي الراهن، الذي رفض حتى ان يضع شروطا عرضتها دمشق توقف مهزلة مبادرة السلام العربية التي اطلقت في قمة بيروت عام الفين واثنين وتعاطت معها اسرائيل طوال تلك المدة بازدراء وعدم اكتراث، فرفضت مصر والسعودية الاقتراح السوري بوضع حد زمني يوقف هذه المذلة العربية.
كما ان دمشق اقترحت لجنة خماسية لحل الخلافات العربية ـ العربية رفضت الرياض المشاركة بها لتبقى الامور على حالها رهن مبادرات فردية كالتي تقوم بها الجزائر حاليا عبر رئيسها عبد العزيز بوتفليقة، او كالتي اقترحت الكويت القيام بها بين الرياض ودمشق من خلال زيارة سيقوم بها امير الكويت صباح الاحمد الصباح غداً السبت الى المملكة بحثا عن سبيل للمصالحة بين البلدين.
هكذا تجاوزت سوريا قطوعا مهما ازعج خصومها الى درجة ان مساعد وزير الخارجية الاميركية دايفيد وولش خرج ليقول ان القمة فشلت لانها انعقدت في دمشق، زاعما انها لو انعقدت في مكان آخر لكان بالامكان حل المشاكل العربية، لكن حجم الانزعاج الاخر للمتغيبين وخيبة املهم من النتائج عبروا عنه بعقد قمة ثلاثية في القاهرة ضمت الرئيس المصري حسني مبارك والملك الاردني بمشاركة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، في محاولة للالتفاف على النجاح السوري، وهي محاولات مستمرة عبر الحديث عن قمة عربية مصغرة لبحث الملف اللبناني، برغم ان هؤلاء يعرفون ان حل هذه الازمة يكمن في القرار الاميركي الذي يعطل الحلول العربية والاقليمية والدولية ويربط الازمة اللبنانية بالملفات الاخرى التي تخصه في المنطقة.
في الخلاصة سجلت سوريا نقطة لمصلحتها في معركة مرجح لها ان تطول لان اهدافها لا تتعلق بلقاء عربي شكلي، بل بخيارات استراتيجية يتصارع حولها محوران: واحد منهما يقع في صلب تطلعات شعوب المنطقة ومصالحها، وآخر ينطلق من اولوية المصالح الاميركية والاسرائيلية، وقمة دمشق كانت محطة في هذا الصراع.
عبد الحسين شبيب
الانتقاد/ العدد1261ـ 4نيسان/ أبريل 2008

2008-04-04