ارشيف من : 2005-2008
..وحرب الغذاء الأميركية
ارتفع أسعار القمح لتراجع زراعته لأسباب منها الإقبال على زراعة الذرة بنية إنتاج زيوت بديلة للنفط، وتناقص كميات الخبز في الأسواق وسوء الإدارة، كل ذلك بات يسهم مع أسباب أخرى، في تهديد السلم الاجتماعي في بلدان فقيرة عديدة، منها لبنان. لكن المشكلات ذات الصلة بالغذاء تهدد وإن لأسباب أخرى، بلداناً غنية كالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. آخر المستجدات في هذا المجال حكم صدر عن منظمة التجارة العالمية في غير مصلحة الاتحاد الأوروبي في ما يتعلق بالخلاف الناشب بينه وبين الولايات المتحدة منذ اثني عشر عاماً في ملف لحوم الأبقار وملفات غذائية أخرى. وكان الاتحاد الأوروبي قد منع في العام 1996، استيراد أنواع من لحوم الأبقار المحتوية على بعض أصناف الهرمونات، من الولايات المتحدة وكندا، بعد أن كشفت أبحاث مستقلة أجريت في الاتحاد عن وجود علاقة بين تلك الهرمونات وارتفاع نسب الإصابة بأنواع من السرطان. لكن الولايات المتحدة وكندا قالتا إن القرار الأوروبي لا يستند إلى أساس علمي. وبعد أن رفعت القضية إلى منظمة التجارة العالمية، جاء حكمها مؤيداً للموقف الأميركي والكندي، حيث أكدت المنظمة أن الأوروبيين لم يبينوا وجود علاقة مباشرة بين استهلاك اللحم البقري المحتوي على الهرمونات والإصابة بالسرطانات. وعليه سمحت المنظمة عام 1999 للولايات المتحدة وكندا بفرض رسوم جمركية عقابية بقيمة 125 مليون دولار سنوياً على مواد غذائية مستوردة من الاتحاد الأوروبي، تراوحت بين بعض أصناف الأجبان ولحوم الخنزير والخيار والكمأة، وما زالت تلك الرسوم سارية حتى اليوم. لكن الاتحاد الأوروبي واصل طول هذه المدة، متابعة هذه القضية أمام منظمة التجارة العالمية، حيث رفع دعوى طالب فيها بوقف العمل بنظام الرسوم العقابية. غير أن المنظمة عادت وأصدرت يوم الاثنين الماضي (31/3/2008)، حكماً يبرر استمرار فرض الرسوم الأميركية الكندية على المواد المستوردة من الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي ابتهج له ناطق باسم الحكومة الكندية عندما أعلن أن بلاده ستستمر في تحصيل حوالى 11 مليون دولار سنوياً بفضل الحكم الصادر عن المنظمة. وبذلك يكون على الأوروبيين إذا ما شاؤوا الاستمرار في تصدير منتجاتهم الغذائية إلى الولايات المتحدة وكندا، أن يختاروا بين شرّين: إما أن يأكلوا لحوم الأبقار المشبوهة القادمة من هذين البلدين مع التعرض للإصابة بالسرطان، وإما أن يخسروا 125 مليون دولار سنوياً.
ويضاف هذا التطور إلى شجار أميركي أوروبي آخر حول ملف الذرة. فالذرة الأميركية تخضع بدورها ـ بقصد التخصيب ـ الى معالجات جينية أثبتت دراسات أوروبية بشكل قاطع أنها مسببة للسرطان. كما أن الأميركيين أنفسهم سبق لهم أن سحبوا من الأسواق عدداً كبيراً من المنتجات الغذائية التي تدخل الذرة المخصبة في تصنيعها. وقد منع الأوروبيون استيراد أصناف الذرة الأميركية المعالجة جينياً، لكنهم واصلوا استيراد أصناف من البذار المفترض فيها أنها طبيعية مئة في المئة. لكن تبين بعد زراعة البذور أن نسبة مهمة من المحصول قد جاءت من النوع المخصب جينياً، وكان من الواضح أن الأميركيين قد تعمدوا دس البذور الممنوعة بين البذور الطبيعية بهدف ربط المزارعين الأوروبيين من وراء ظهر حكوماتهم، بعجلة البذار الأميركي! والمعروف في هذا المجال أن البذور المعالجة جينياً وذات الإنتاجية الكبيرة (والسرطانية) لا تعطي غير محصول واحد، ويصعب إنتاجها لحاجتها إلى تقنيات علمية شديدة التعقيد، ما يجبر المزارعين الطامعين بالمزيد من الربح على الارتهان الدائم لمنتج البذار الأميركي.
غير أن أوروبا ليست ضحية لأميركا وحدها في هذا المجال، فهي أيضاً ضحية لنفسها. فقد اندلعت الأسبوع الماضي حرب أوروبية ـ إيطالية وإيطالية ـ إيطالية حول منتجات في مقدمتها جبنة المزاريلا التي تدخل على نطاق واسع في المطبخ الإيطالي، كما في العديد من الأطباق المستحدثة والمطلوبة أوروبياً وعالمياً. فقد تبين أن تلك المنتجات ملوثة بنسبة عالية من مادة الديوكسين الناجمة عن التلوث الصناعي. وقد بادرت فرنسا إلى مقاطعة تلك المنتجات وسط تأكيدات من روما أنها لم تصدر أيا من المنتجات الملوثة إلى خارج إيطاليا.. في حين صدرت تهديدات بالمقاطعة في بروكسيل عن سائر بلدان الاتحاد الأوروبي التي شككت في صحة التأكيدات الإيطالية. وإذا كان الإيطاليون قد راقبوا وسحبوا من سوقهم الداخلية 83 منتجاً من أصل 1900 منتج تحوم حولها الشبهات، فإن ذلك لم يطمئن جمهور المستهلكين الذين تباطأ إقبالهم على تلك المنتجات، وإن كان وزير الزراعة قد حرص على تناول بعضها أمام عدسات الصحافة. وكل ذلك في الغرب حيث المراقبة والقوانين الرادعة، فكيف في غير الغرب من بلدان لا يسأل الناس فيها عما يأكلون إلا بعد حلول الكوارث؟! وإن تساءلوا فلا ينفع التساؤل بعد أن صارت التبعية شبه مطلقة في مجال الغذاء للسوق الدولية، وبعد أن تضاءلت سبل اختيار أهون الشرور في ظروف الحصار الذي لا يخضع له أهل غزة وحدهم، في ظل سيادة أنماط العيش الاستهلاكي.
ع.ح.
الانتقاد/ العدد1261ـ 4نيسان/ أبريل 2008