ارشيف من : 2005-2008
التلازم بين الإيمان والعمل
يحاول بعض جهلة المسلمين وبعض ذوي الأهواء من أبناء المسلمين، تصوير الإسلام على أنه مجرد عقائد وتصورات فكرية لا صلة لها بالحياة. وهذه التصورات للدين هي في الحقيقة تشويه للدين وتضييق لمجاله.
ومن أخطر ما تنطوي عليه هذه التصورات من نتائج هو "الفصل بين الإيمان والعمل"، إذ الإيمان وفقاً لها مجرد تصديق فقط.. أي انه حالة إدراكية تفيد العلم بالشيء. فالإيمان بالله وسائر التعاليم الدينية معناه التصديق بها والإقرار بحقانيتها دون أن يترتب على هذا الإيمان آثار عملية محددة.
والحقيقة أن الإيمان ليس مجرد العلم والتصديق، ذلك أن العلم ربما يجتمع مع الكفر، والكفر هو نقيض الإيمان. وهذا ما يستفاد من أمثال قوله تعالى: "إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى" (سورة محمد: 25)، وقوله: "إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى" (سورة محمد: 32)، وقوله: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم" (النمل: 14)، وقوله: "وأضله الله على علم" (الجاثية 23).. فالآيات ـ كما ترى ـ تثبت الارتداد والكفر والجحود والضلال مع العلم.
فمجرد العلم بالشيء والجزم بكونه حقا لا يكفي في حصول الإيمان به، أو وصف من حصل له أنه مؤمن. بل لا بد من الالتزام بمقتضاه وعقد القلب على مؤداه، بحيث يترتب عليه آثاره العملية. وهذا لعَمْرِك من بديهيات الإسلام و"ألف باء" الإيمان.
فالقرآن يلح على التلازم بين الإيمان والعمل، وهو قلّ أن يذكر الإيمان منفصلاً عن العمل: "إنَّ الَّذينَ آمنُوا وَعَملُوا الصَّالحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيرُ البَريَّةِ" (البينة: 7)، "إنَّ الَّذينَ آمنُوا وَعَملُوا الصَّالحاتِ لَهُمْ أجرٌ غَيرُ مَمنونٍ" (فصلت: 8)، "والعصر، إن الإنسان لَفي خُسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحقّ وتواصَوا بالصّبر" (سورة العصر).
وقد جعل الله تعالى في الآيات الاولى من سورة العنكبوت العمل الصالح ميزاناً للإيمان، وبيّن أن من يعمل السوء إنما هو مدّعٍٍ للإيمان، يقول انه مؤمن وما هو بمؤمن حقاً: "ألم،أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون، ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين".. (يعلم صدقهم أو كذبهم باختبارهم).. "أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون".
والقرآن الكريم لا يكتفي بجعل العمل ميزان الإيمان ومصداقه، ولكن يعدّه المعيار في الثواب والعقاب. فالمؤمنون لا يُعْفَون بحكم إيمانهم من الحساب، بل عمل كلٍ منهم هو الذي سيقرر ما إذا كان هؤلاء المؤمنون يثابون أو يعاقبون. والآيات في ذلك عديدة، منها قوله تعالى: "الذي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا" (الملك: 2)، وقوله تعالى: "وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" (الأعراف: 129)، وقوله تعالى: "فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون" (الحجر: 92-93)، وقوله تعالى: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ" (الجاثية: 15)، وقوله تعالى: "وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ" (النحل: 111)، وقوله تعالى: "مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ" (غافر: 40).
والحديث النبوي الشريف يؤكد هذا الترابط الوثيق بين الإيمان والعمل، واعتبار العمل مبرر الثواب والعقاب. فعن رسول الله (ص): "الإيمان ما وَقَرَ في القلب وصَدَّقه العمل.. وإن أُناساً قالوا إنّا نُحْسِن الظَنَّ بِالله وكَذبوا، لو أحْسَنوا الظن لأحْسَنوا العَمَل". وعنه (ص): "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق".
وعن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (ع) قال: قلت له: أيها العالم أخبرني أي الأعمال أفضل عند الله؟ قال: "ما لا يقبل الله شيئا إلا به". قلت: وما هو؟ قال: "الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو أعلى الأعمال درجة وأشرفها منزلة وأسناها حظا". فقلت: ألا تخبرني عن الإيمان، أقَوْل هو وعمل أم قول بلا عمل؟ قال: "الإيمان عمل كله، والقول بعض ذلك العمل، بفرض من الله بيّن في كتابه واضح نوره ثابتة حجته، يشهد له به الكتاب و يدعوه إليه". وهو يشير بذلك إلى قول الله عزّ وجلّ: "وَمَنْ يكفر بالإيمان فقط حبط عمله".. قال (ع): "كفرهم به: ترك العمل بالذي أقرّوا به".
والإمام الصادق (ع) يعتبر هذه الحقيقة، حقيقة "تلازم الإيمان والعمل"، أمراً فطرياً جُبل الإنسان عليه منذ الخلقة. يقول (ع): "أصدق الأسماء حارث وهمام". وهو يعني أن كل أحد حارث وهمام، أي له عمل ونية، إذ كل إنسان لا بد له من حرث ـ وهو كسبه وعمله ـ ولا بد له من هم، وهو دافعه إلى ذلك العمل.
والمتدبر آيات الكتاب الكريم لا يستطيع أن يتصور إمكانية انفصال الإيمان عن العمل، وأنه يكفي استقرار الإيمان في القلب للحصول على مسمى الإيمان، أو الاتصاف به وحمل لقب مؤمن. ولذلك أقسم سبحانه وتعالى على ذلك قائلاً: "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمنونَ حَتَّى يُحكموكَ فِيمَا شَجرَ بَينهُمْ ثُمَّ لا َيجدُوا فِي أنفسهِمْ حَرجاً ممَّا قضَيتَ وَيُسلِّموا تَسلِيماً" (النساء: 65). والتحكيم فعل وقبوله وتنفيذه فعل. فانظر كيف ينعكس الإيمان على جوانب الحياة كلها.
اسماعيل زلغوط
الانتقاد/ العدد1261ـ 4نيسان/ أبريل 2008