ارشيف من : 2005-2008
"ما زاد عن حدِّه انقلب الى ضدِّه": الاعتدال في المزاح كالملح مع الطعام
هي روح الدعابة يملكها البعض فيفرطون في استعمالها، فيلامون.. وينطبق عليهم القول المأثور: "كثرة المزاح تُذهب ماء الوجه". وهي الروح نفسها يتحلى بها آخرون، فيلجأون اليها من حين لآخر وفي لحظات محددة من غير إفراط، فتضفي جواً من المرح على الجلسات مع العائلة أو الأصدقاء، وتبعد الجو الرتيب الذي يبعث على الملل، إذا أحسن المازح في مزحه، وابتعد عن الإكثار من المزاح المذموم الذي يُفسد المودة ويأتي بالعداوة.
في التراث ورد ذم للمزاح على أكثر من لسان، فقيل: "اتقوا الله وإياكم والمزاح، فإنه يورث الضغينة ويجر إلى القبيح"، و"لكل شيء بذر، وبذر العداوة المزاح"، و"المزاح مسلبة للبهاء، مقطعة للصداقة"، و"من مزح مزحة مجّ من عقله مجة". والظاهر من التعارض بين النهي عن المزاح والمزاح المروي عن النبي (ص) وصحابته، أن المقصود بهذا النهي هو المزاح الذي يُكثر صاحبه منه ولا يراعي فيه الشروط المطلوبة، وليس مطلق المزاح.
إذاً في البعد الديني ورد نهي ضمناً ـ كما مرَّ ـ عن الإكثار من المزاح، لما لذلك من مفاسد تترك أثراً سيئاً. وورد عن أهل العلم والخبرة في الحياة نهي ـ أيضاً ـ عن ممازحة أشخاص محددين، منهم الصبيان، لئلا تهون عندهم، والشريف لئلا يحقد عليك، والدنيء لئلا يجترئ عليك.
أما المزاح القليل فلا بأس به، وخصوصاً إذا توافرت شروطه ولم يؤد الى ضرر أو حرج لأحد. ويروى أن نبي الرحمة محمدا (ص) كان يمزح، ولكن لا يقول إلا الحق، كما جاء على لسانه. فقد جاءته امرأة عجوز فقالت له: ادعُ الله أن يدخلني الجنة.. فقال (ص): إن الجنة لا تدخلها عجوز. فولت تبكي فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: "إنا أنشأناهن إنشاءً فجعلناهن أبكاراً".
وجاء رجل إلى النبي (ص) فقال له: يا رسول الله احملني (أي يريد ناقة يركبها)، فقال له النبي (ص) ممازحاً: "إنا حاملوك على ولد ناقة". فظن الرجل أن ولد الناقة سيكون صغيراً ضعيفاً ولا يقدر على حمله، فقال: وما أصنع بولد الناقة؟ فقال له النبي (ص): "وهل تلد الإبلَ إلا النوقُ؟!".
ومازح رسول الله (ص) الإمام علياً (ع) عندما كانا يأكلان معاً التمر، وتراكم أمام الإمام علي (ع) عدد من النوى، فقال له (ص): إنك لأكول؟ فأجابه (ع): إن الأكول هو الذي يأكل التمر مع النوى!!
وقد ذكر العلماء جملة من الآداب والسنن التي ينبغي مراعاتها في المزاح، منها:
ـ الصدق في المزاح وترك الكذب. فقد جاء في الحديث: لا يؤمن العبد حتى يترك الكذب في المزاح والمراء (الجدال).
ـ عدم الاستهزاء بأحد، ولو من باب المزاح، عملاً بالآية الكريمة: "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن".
ـ عدم أذية أحد أو إفزاعه. فقد جاء أن قافلة نام أحد أفرادها فأخذ بعضهم حزامه وهو نائم، ففزع لذلك، ولما علم النبي (ص) بفعلهم نهاهم عن ذلك.
ـ اختيار الزمان والمكان الملائمين للمزاح، فقد ورد نهي عن المزاح في أوقات وأماكن محددة، مثل أوقات الصلاة وعند زيارة المقابر وعند ذكر الموت وقراءة القرآن، وعند لقاء الأعداء وفي أماكن التعلم.
ـ عدم المزاح في الأمور المهمة، مثل الزواج والطلاق ونحوهما.
ـ عدم المزاح في الأمور الدينية، فالدين له قدسية عند المولى جل وعلا، ولا ينبغي مطلقاً المس بشعائر الله عز وجل، أو التطرق اليها من باب المزاح وغيره.
إن الترويح عن النفس ساعة بعد ساعة أمر مطلوب لئلا تمل النفوس من رتابة الحياة، والمزاح يروِّح عن النفس إذا كان بحدوده وشروطه، أما إذا زاد عن حدِّه فإنه ينقلب الى ضدِّه، وإذا اعتدل فيه كان كالملح مع الطعام، قليله مفيد وكثيره ضارّ.
عدنان حمّود
الانتقاد/ العدد1261ـ 4نيسان/ أبريل 2008