ارشيف من : 2005-2008
الخلفيات الحقيقية للرسوم المسيئة للرسول الأكرم (ص): الوجود الإسلامي في أوروبا يغضب "اليمين المتطرف"
ماذا تعني إعادة نشر رسوم كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد (ص) رسول الرحمة، في أكثر من 50 صحيفة غربية؟
هي بلا شك تحمل خلفيات أبعد بكثير من الذريعة ـ الشائعة التي استخدمتها صحيفة "يولاندسن بوستن" الدنماركية وصحف غربية أخرى لإعادة نشر تلك الرسوم، وهي "تعرّض ناشرها كورد فيستر غارد لمحاولة اغتيال".
يعزز هذا الاعتقاد قيام الشرطة الدنماركية باعتقال ثلاثة أشخاص قالت إنهم حاولوا اغتيال الرسام "غارد". بيد أنه مضى وقت قصير ثم أطلقت الشرطة سراحهم، وعللت الخطوة بعدم توافر الأدلة لرفع المسألة إلى القضاء.
وقد دفع ذلك رئيس الوقف الإسلامي في الدنمارك مصطفى الشنضيض للقول إن الصحف عبر نشرها الرسوم، تريد التغطية على الخطأ الجسيم الذي وقعت فيه الاستخبارات والشرطة في القبض على ثلاثة أبرياء، سرعان ما اضطرا إلى إطلاق سراحهم.
هذه أمور ظرفية، إذ توجب المسألة عودة إلى التاريخ الأول، 30 أيلول/ سبتمبر 2005، حينما نشرت "يولاندسن بوستن" لأول مرة رسوماً كاريكاتورية مسيئة للرسول الأكرم (ص). وبعد أقل من أسبوعين تبعتها صحف نرويجية وألمانية وفرنسية نشرت بدورها تلك الرسوم.
الإساءة ليست مجرّد تسلية تملأ بها الصحف صفحاتها وتعبّر عن "حرية مكبوتة" أو دَيْن مستحق لمذهب حق التعبير، بل هي حملة إعلامية أُعيد إنتاجها في العام الجاري، وإصرار على الإساءة، وكأن ناشري الرسوم التي قابلتها تظاهرات في مختلف البلدان الإسلامية، يحاولون تثبيت أفعالهم حقاً "حضارياً".
في عمق ما حصل أهداف خطيرة تتناول الوجود الإسلامي في الدنمارك والبلدان المجاورة. فلا يمكن التصديق أنّ "مجددي الإساءة" لم يتوقعوا التظاهر والاحتجاج ضد عملهم، لأنهم شاهدوا رد الفعل الطبيعي عام 2005 الذي بقي في إطار مقبول، لكنهم راهنوا هذه المرة على ردود فعل تشبه إساءتهم.
ومرة أخرى صدحت الأصوات الغاضبة والمُدينة، ولم تنجح الخطة بإبراز الإسلام كدين يهدد السلم في المجتمعات الغربية التي يسعى إلى تمتين اندماجه الثقافي بها، أو عبر استغلال التظاهر العادي الذي قد يتخلله نشاز محدود خارج عن السيطرة، لاتهام المسلمين بأنهم غير حضاريين.
حين يشاهد ما يُسمّى بـ"اليمين المتطرف" المد الإسلامي في البلدان الأوروبية، يوعز إلى أذرعه الإعلامية بالهجوم على مقدسات المسلمين لإلهائهم بالدفاع عن نبيهم وقطع تواصلهم المتنامي مع الغرب. وبتفسير أدق يحاول هذا "اليمين" من خلال إعادة نشر هذه الرسوم المخطط لها، جعل مستوى التواصل بين مسلمي الدنمارك والمواطنين الآخرين، مستوىً تسوده الريبة المتبادلة، مرجحاً انقطاع جسور التواصل في ما بعد.
وعلى المقلب الآخر تنحني المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لـ"رهبة الهولوكوست" وحق الدولة اليهودية في الحياة بأي ثمن، خلال زيارتها الأخيرة إلى "إسرائيل"، بينما يدعو وزير داخليتها الصحف الألمانية إلى نشر الرسوم المسيئة للنبي (ص) "دفاعاً عن حرية الصحافة"!
فكيف تدعي السلطات الدنماركية والألمانية وغيرها الحرص على الحوار والتواصل مع الإسلام، وهي تدافع عن الإساءات التي تستبطن العكس؟
وفي المقابل صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الحكومة الدنماركية تستعمل حجة حرية الرأي للدفاع عن الصحيفة ورسامها اللذين أهانا المسلمين. ووصف تلك الفعلة بأنها غير أخلاقية. والكلام لرئيس روسيا البلد غير الإسلامي تماماً كما الدانمارك، مع الأخذ بالاعتبار أن الجسم الإسلامي في هذا البلد يبتغي رسم كيانه بحكم وجوده.
اللافت في خضم ما جرى وتحليلاته ما بيّنه غونتر غراس عميد الأدباء الألمان في مقابلة مع مجلة إسبانية، عندما وصف الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي (ص) بأنها مهينة ومؤذية لمشاعر المسلمين حول العالم. ولمّا سُئل عن الهدف من نشرها أكد غراس أن نية الصحيفة الدنماركية في استفزاز المشاعر كانت واضحة.
ولم يتردد غراس في القول إن ردود الفعل الإسلامية ضد نشر الرسوم متوقعة وغير مفاجئة، وتأتي في إطار دوامة من العنف العالمي فجّرها الغرب بدعمه الرئيس الأميركي جورج بوش في غزوه العراق، المخالف للقانون الدولي.
وأما بيت القصيد، فيحدده عميد الأدباء الألمان بقوله: "إن تذرع الغربيين بالدفاع عن حرية الصحافة كمبرر لنشر الرسوم الكاريكاتورية، يُظهر تجاهلهم عمداً بحقيقة تعبير الصحافة الغربية عن مصالح الشركات الاستثمارية العملاقة المموِّلة لها والمتحكمة في توجيه الرأي العام وقيادته بصورة أفقدته القدرة على التعبير عن رأيه الحر". وينصح غراس الغرب المغرور والمفتون بذاته، بعدم الحديث عن حرية الصحافة قبل تحليل وضع هذه الحرية لديه، وإدراك أن مناطق أخرى في العالم ليس فيها فصل بين الدين والدولة. ومن هذا المنطلق لن يكون "اليمين المتطرف" المحرّض على نشر مثل تلك الرسوم زاهياً بنفسه من دون أن يشاركه مستفيدون مختبئون خلف شركات استثمارية عملاقة، كما قال عميد الأدب الألماني. فمن يموّل الصحف التي تنشر رسوماً ضد نبي الإسلام وتثير سخط المسلمين حول العالم وتكاد تتسبب بأزمات داخل دول أوروبية؟
بالتأكيد هم أصحاب رؤوس الأموال الذين يملكون القرار في وسائل الإعلام، وهو ما أشار إليه غونتر غراس بشكل غير مباشر: اليمين الأوروبي المتطرف والمتعاون مع المتطرفين الأخطر، أي الصهيونية التي تحارب الإسلام وانتشاره في الأمكنة نفسها، حيث توجد عناصرها المضادة!
حسن زراقط
الانتقاد/ العدد1261ـ 4نيسان/ أبريل 2008