ارشيف من : 2005-2008
حدث في مقالة: صفحة القمة طويت لتبدأ حسابات ما بعدها
كتب مصطفى الحاج علي
انطوت صفحة القمة العربية في دمشق، لتفتح صفحة بعدها عربياً ولبنانياً، وسط مناخات مشحونة بالتوتر الحربي، مصدرها المناورات العسكرية الاسرائيلية، والتحركات الاميركية المريبة في المنطقة، وارتفاع حدة التوتر على أكثر من جبهة مواجهة وصدام اميركية ـ ايرانية، واميركية ـ سورية.
عربياً، بدا أن هناك عملية تقويم سريعة قد جرت للمحصلة النهائية للنتائج التي أسفرت عنها القمة العربية، والمحصلة هنا لا تشمل فقط انعقاد القمة وما خرجت به من مقررات واعلانات وتوصيات، وإنما تشمل مجمل المسار الذي انعقدت فيه، وهو مسار اشتباكي شنت خلاله حملة قاسية من قبل اميركا وأتباعها في المنطقة لإفشال القمة، وتحويلها إلى مكسب سلبي لدمشق بدلاً من أن تكون مكسباً ايجابياً، وبمعزل عن لعبة البربوغندا الاعلامية لخصوم دمشق، والمكابرة السياسية، فإن أي شهادة موضوعية تقر بفوز لدمشق ولو بالنقاط لا سيما لجهة نجاحها أولاً في عقد القمة في وقتها وفي مكانها، وثانياً، في منع تحويلها إلى مناسبة لتفجير الخلافات العربية ـ العربية، وللتراجع خطوات إلى الوراء بالنسبة للعديد من الملفات الحساسة، وثالثاً، استلام الرئيس السوري بشار الأسد رئاسة القمة لمدة سنة كاملة، ما يعطي دمشق هامش تحرك عربي كبيراً، ووزناً يؤكد موقعها ودورها الأساسي في السياسة العربية.
ان الحضور الثقيل لهذه النتائج في حسابات الخصوم، أطلق جملة من الاتصالات العربية ـ العربية على مسارين مختلفين:
الأول: استهدف معالجة الخلاف المصري ـ السوري، والخلاف السعودي ـ السوري، قادته ـ كما يبدو ـ الجزائر والكويت، والثاني استهدف احتواء نتائج قمة دمشق، والاخفاق الأميركي والسعودي والمصري في افشالها، والعمل على تشكيل ثقل عربي موازٍ لدور سوريا الآن يسمح بافراغ إلى عمل وحدوي في معناه، وفي هذا الإطار، يمكن تسجيل جملة ملاحظات:
الأولى، تتمثل باستمرار الهجوم الاعلامي المركز للكتّاب المحسوبين على النظامين السعودي والمصري على دمشق، واللافت هنا، أن هؤلاء قدّموا محاور الخلاف المتصلة بالملفات الخاصة بفلسطين والعلاقة مع إيران على حساب الملف اللبناني الذي تراجع الاهتمام به إلى الخلف. ما يعني أن أولويات هؤلاء ليست لبنان كما يدّعون، وإنما في مكان آخر، ما يعني بدوره أن لا مانع لدى هؤلاء من تحويل لبنان إلى ورقة مقايضة من جهة، كما يؤكد ـ من جهة أخرى ـ أنه لا يعدو أكثر من عدة الشغل للضغط على سوريا والمعارضة، وإلا كيف يمكن تفسير عدم التوصل إلى تسوية موضوعية حتى الآن.
الثانية: التلميح بإطلاق تحرك عربي في وجه دمشق من خلال العمل على عقد مؤتمرات عربية موازية تقطع الطريق على أي جهد يمكن ان تقوم به سوريا، ويجعل رئاستها للقمة عديمة الفاعلية.
كما سارع الفريق العربي ـ الأميركي إلى وضع لبنان كعقبة مجدداً إزاء أي عملية تقارب مع سوريا، بكلام آخر، فإن هذا الفريق يريد مقايضة تسوية العلاقات مع سوريا بتسهيلها لانتخاب رئيس في لبنان.
الثالثة: ان الانقسام العربي ما زال هو الحقيقة الثابتة، في الوقت الذي لا يبدو أن هناك أفقاً واقعياً لأي ترتيب أو معالجة لحالة الانقسام هذه، وبالتالي، فإن الأمور قد تتراوح بين حدين: إما تهدئة التوترات وحدة الانقسام، وإما المضي قدماً في مواجهات لا أحد يعرف كيف يمكن أن تترجم نفسها على الأرض.
أما لبنانياً، فبدا أن هناك سباقاً مفتوحاً بين تحركين: الأول يقوده رئيس الحكومة اللاشرعية واللاميثاقية فؤاد السنيورة، ويستهدف ملاقاة حركة عرب أميركا، لجهة التعويض عن غيابهم بالإرادة العليا الاميركية عن القمة، ولتسويق أعذارهم الخائبة بعد انفضاح مواقفهم ومن يقف خلفها، ومحاولة تشويه صورة دمشق من خلال تحميلها مسؤولية الأزمة اللبنانية، وغيابهم عن القمة، للتأثير على صورتها العربية كدولة ممانعة تمكنت من الوقوف في وجه الضغوط الاميركية والتغلب عليها، وللمساهمة في تأجيج الانقسام العربي عبر اصطناع لقاءات جديدة تشكل اطاراً للهجوم على سوريا والمعارضة في لبنان، وتكون بمثابة بديل عن المهمة التي كان يفترض أن يؤدوها في القمة العربية لو أذن لهم الأميركي بالمشاركة.
فكل مواقف السنيورة جاءت استفزازية إزاء دمشق والمعارضة، وكأنها تريد استدراجهما إلى المزيد من المواجهات، بما يعطل أي أثر أو نتيجة ايجابية خرجت بها القمة العربية.
من جهته بدا الرئيس بري مسكوناً بمرحلة ما بعد القمة، وتحديداً بكيفية ملء الفراغ السياسي في لبنان بفعل جمود المبادرة العربية، واستمرار الخلافات العربية ـ العربية، وفي ظل الأجواء المضطربة بل الشديدة الاضطراب من حول لبنان، وفي ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية فيه، والمنذرة بعواقب وخيمة في ما لو تركت لحالها، وأكثر من ذلك، فإن الرئيس بري يدرك أن الوقت لم يعد مريحاً لأحد، وخصوصاً ان ترك الأمور بدون معالجات سياسية إلى حين انتهاء ولاية المجلس النيابي الحالي، سيعني حتماً دخول لبنان في مرحلة بالغة الصعوبة، ومفتوحة على كل الاحتمالات.
لذا، سارع الرئيس بري إلى المبادرة في طرح مبادرته الحوارية، لأن لا شيء ينوب اولاً وأخيراً ومهما كان حجم التأثيرات الخارجية، عن جلوس اللبنانيين إلى طاولة الحوار مجدداً للتوصل إلى الحل المنشود، او للتوافق على الطريقة الأنسب لإخراج هذا الحل.
ولأن الحوار هو البديل العملي لأي شكل من أشكال التواصل السياسي، بل هو الآلية الايجابية الوحيدة التي من شأنها ان تريح اللبنانيين، وتكفل عبوراً هادئاً، للوقت المستقطع من الأزمة اللبنانية، وتفتح فرصاً داخلية للتوصل إلى تفاهمات أو تسويات، جرى التأكيد عليه مجدداً، إلا أن المفاجئ هو الطريقة التي تعامل فيها فريق السلطة مع مبادرة بري الذي عمل سريعاً على توفير احتضان سوري ايجابي لها، بل توفير رافعة سورية أساسية لها، تكفل ـ في ما لو كانت النوايا ايجابية ـ أن تؤسس لرافعة عربية ولبنانية لها، فهذا الفريق انقسم على نفسه بين مؤيدٍ ومخالف، في الوقت الذي لم يظهر أي احتضان عربي دافئ لها، وفي الوقت الذي أظهرت فيه واشنطن تحفظاً ملحوظاً، في حين سارعت باريس عبر لسان وزير خارجيتها كوشنير إلى التشكيك بها، وتوجيه انتقاد قاسٍ للرئيس بري.
فماذا وراء هذه المواقف؟ وماذا وراء انقسام فريق السلطة، وهل نحن إزاء توزيع جديد للأدوار، أم نحن إزاء انقسام فعلي، وبالتالي ما هي حيثياته؟ يبدو من لحن قول ومواقف فريق السلطة، وبعض الأطراف العربية، أن اطلاق النار على مبادرة بري، يراد منه إصابة الانفتاح الايجابي لسوريا أيضاً.
فهؤلاء يصرون على تصوير المشكلة وكأنها مشكلة مع سوريا فقط، وتركيز حركتهم للضغط باتجاه انجاز عملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية بدون أي تسوية سياسية تشمل كل نقاط الخلاف، في حين يرى الرئيس بري، أن مسألة الرئيس منتهية، وأن المطلوب التحاور حول نقاط الخلاف، وفي طليعتها قانون الانتخاب، خصوصاً بعدما أعلن الوزير فرنجية باسمه الشخصي امكان تجاوز شرط حكومة الوحدة الوطنية. لكن، يبدو، واستناداً إلى أن واشنطن غير مستعجلة في بت مسألة الرئاسة لإبقاء السنيورة أطول فترة في الحكومة، ولأن هناك خلافاً كبيراً وعميقاً داخل صفوف 14 آذار حول قانون الانتخاب، يهرب هؤلاء من طاولة الحوار باتجاه التشدد في مواقفهم السياسية، ومحاولة محاصرتها بشروط معقدة لتثقيل انطلاقتها، بل لمنعها من التحرك.
من هنا، لا تبدو الأمور مفتوحة على حراك هادئ، أو تسويات محتملة، بقدر ما هي مفتوحة على حراك سياسي يراوح الأزمة مكانها، وبأكثر قدر ممكن من الهدوء، لأن يبقى ذلك من مصلحة الجميع.
الانتقاد/ العدد1262ـ 11 نيسان/ أبريل 2008