ارشيف من : 2005-2008

أخفي لإبقاء الضبّاط موقوفين والتعتيم على من اخترعه لتضليل التحقيق:

أخفي لإبقاء الضبّاط موقوفين والتعتيم على من اخترعه لتضليل التحقيق:


الصدّيق

سواء اختفى الشاهد الرئيسي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، السوري محمّد زهير الصدّيق، أو أُخفي، أو هَرَب، أو هُرِّب، أو ترك الأراضي الفرنسية، أو سحب منها تحت جنح الظلام، وفي ليلة لا يوجد فيها ضوء قمر على الرغم من أنّ باريس مدينة الضوء والضوضاء، فالنتيجة واحدة، وهي أنّ الضرورات غير القانونية، أباحت مسح الصدّيق عن شاشة الظهور ولو موقّتاً، لتحقيق هدف واحد هو إبقاء الضبّاط الأربعة معتقلين في سجن "رومية" المركزي، إلى حين بدء المحكمة ذات الطابع الدولي مهامها رسمياً في زمن غير محدّد، ولكن من المؤكّد بعد صدور القرار الاتهامي وتحديد المسؤوليات والأشخاص الفاعلين والضالعين، بالأدلّة والقرائن والإثباتات.
وسواء "انشقّت الأرض وابتلعت" الصدّيق الذي يفترض أن يكون خاضعاً للحماية والرقابة الفرنسية اللصيقة، وجرت تصفيته والتخلّص من معلوماته الكيدية التي أعطيت له لتضليل التحقيق، وحرفه عن مساره نحو اكتشاف الجناة الفعليين، وسواء جرى حجزه في مكان ما، بداعي بدء برنامج "حماية الشهود" عمله، قبل أن تثبت ركائز المحكمة، فإنّ الخلاصة واحدة وهي أنّ ما أدلى به هذا الشاهد من تفاصيل مثيرة عن الجريمة، يقتضي الآن تغييبه عن الساحة، لأهمّية إبقاء "صورته الجميلة" و"هيبة" معلوماته، راسخة في ذهن الرأي العام، وفي مجريات القضيّة، لتحقيق المزيد من المكاسب السياسية منها، على الرغم من أنّ رئيس لجنة التحقيق السابق القاضي البلجيكي سيرج برامرتز توصّل إلى قناعة ثابتة بأنّ الصدّيق كاذب، بعدما نسف مضمون إفادته، ورآها رثّة غير قابلة للحياة، في أيّ زمان من عمر الكون.
وهروب الصدّيق يعني بالدرجة الأولى والأخيرة، إشغال لجنة التحقيق والمحكمة ذات الطابع الدولي، به، بعد اتهام شبكة إجرامية تابعة للأصولية ولتنظيم "القاعدة" تحديداً، بالوقوف وراء الاغتيال، ومنع اكتشاف الأشخاص الذين زرعوا في رأسه كلّ تلك المعلومات التضليلية، وغذّوه بالأموال الهائلة، للقيام بهذا الدور الخطر، وأمّنوا له مع عائلته المؤلّفة من زوجته اللبنانية وابنه وابنته، عيشة ترف في "فيلا"، في واحدة من أغنى ضواحي باريس وأكثرها رقياً، وهي بلدة "شاتو" الواقعة على ضفاف نهر السين.
وسواء زال الصدّيق من الوجود، أو أزيل، فإنّ السلطات الفرنسية تتحمّل المسؤولية الكاملة عن هذا "الفيلم" الجديد، ولا يقتصر الأمر على مجرّد أسف يبديه وزير الخارجية برنار كوشنير في معرض اعترافه الصريح بما حصل مع الصدّيق، ومحاولته، قدر المستطاع، التخفيف من وقعه، باستخدامه عبارة "اختفى".
فالسلطات الفرنسية استقبلت الصدّيق على أراضيها منذ خريف العام 2005، بعدما أتمّ واجباته التضليلية بتوجيه أصابع الاتهام إلى الضبّاط الأربعة اللواءين جميل السيّد، وعلي الحاج، والعميدين ريمون عازار، ومصطفى حمدان، والمخابرات السورية، ثمّ تمنّعت عن تسليمه إلى لبنان إثر المطالبة باسترداده بحجّة أنّ لبنان ينفّذ عقوبة الإعدام، وهو ما يستحيل أن توافق عليه، مستغلّة خطأ قضائياً لبنانياً عفوياً، أو مقصوداً، بالادعاء على الصدّيق بجرم المشاركة في جريمة اغتيال الحريري، بدلاً من الاكتفاء بالادعاء عليه بجرم إعطاء شهادة كاذبة، والفارق بينهما، كما العقوبة، شاسع وكبير.
كما أنّ السلطات الفرنسية مسؤولة أمام الأمم المتحدة عن تعاملها السيئ مع لجنة التحقيق الدولية والقضاء اللبناني المعني بجريمة الاغتيال، بناءً للقرار الدولي الرقم 1595 الذي يحضّ كل دول العالم على تقديم العون للجنة، فأهملتهما على الرغم من معرفتها بأنّ هذا القرار الدولي يعتبر أعلى درجة وإلزامية من الأنظمة والقوانين الداخلية الخاصة بها وبسواها من الدول التي لم تتعاون بما فيه الكفاية في هذا الملفّ الدولي الحسّاس.
ميليس واختراع الصدّيق
كيف برز الصدّيق وكيف ذاب؟
ما أن تسلّم القاضي الألماني ديتليف ميليس زمام التحقيق في شهر حزيران/ يونيو من العام 2005، حتّى بدأ باستكمال معالم خريطة جريمة الاغتيال، بطرق شتى معظمها أساليب مواربة وتمييع، فسعى إلى الحصول على تعاون من اللواء الركن جميل السيّد لإقناع الرئيس السوري بشّار الأسد بتقديم ضحيّة ما، تتهمّ بارتكاب الجريمة، ثمّ تقتل، وتحلّ المسألة بالسياسة، كما جرى مع ليبيا في قضيّة طائرة لوكربي الشهيرة، من دون أن يزول من سجّلها أنّها ارتكبت الجريمة.
ولا يخفى على أحد أنّ طرق ميليس لباب السيّد، لم يكن عفوياً على الإطلاق، وإنّما متعمّداً، لما يتمتّع به السيّد من مصداقية تجعل ما يفعله عرضة للتصديق الفوري، ولكن غاب عن ذهن ميليس ومن دفعه لارتكاب هذا الجرم التضليلي، أنّ اللواء السيّد واحد من أذكى رجال المخابرات في لبنان والشرق الأوسط، إن لم نقل العالم كلّه، ومن الصعب تمرير مثل هذه الحيلة والأكذوبة عليه.
 ولمّا لم يجد ميليس التعاون اللازم، زجّ اللواء السيّد في السجن، ما يعني أنّ الصدّيق الذي أعطي صفة الشاهد، كان موجوداً ومحضّراً مسبقاً للصعود إلى خشبة المسرح وتأدية الدور المطلوب منه، ولو نجح المخطّط مع "الأصيل" اللواء السيّد، لما كان هنالك من ضرورة لاستدعاء "الاحتياط" المتمثّل في هذا الصدّيق الذي يعرف كلّ شيء عن الجريمة بدءاً من التخطيط ولغاية التنفيذ، وما كان يعتريه من أضغاث أحلام عن شاحنة "الميتسوبيشي" ورؤيته لها في معسكر للقوّات السورية في منطقة سهل الزبداني قبل أن يصفعه برامرتز ويوقظه من ضلاله، ويعلن بأنّها دخلت إلى لبنان عبر مرفأ طرابلس بعد انتقالها بالسرقة، من دولة المنشأ اليابان إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، واختفائها في محلّة الدورة في لبنان.
غلطة عيد
وإثر نجاح الصدّيق في مهمّته وما نتج منها من توقيف للضبّاط الأربعة، منع المحقّق العدلي القاضي إلياس عيد من سماع إفادته وإجراء مقابلات بينه وبين هؤلاء الضبّاط بغية التحقّق من مزاعمه، في واحدة من أعظم الأخطاء التي شهدها القضاء اللبناني في هذه القضيّة، ثمّ جرى تهريبه إلى المملكة العربية السعودية قبل أن يستقرّ به التجوال المدفوع الأجر في فرنسا التي اعترفت بوصوله إليها في شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر من العام 2005، أيّ بعد شهر على توقيف الضبّاط الأربعة.
وقد أولت السلطات الفرنسية أمر حماية هذا "الشاهد السمين والثمين" إلى جهاز حماية الشخصيات المعروف باسم"RAID"، فشدّد الإجراءات الأمنية حوله، وهذا ما تسبّب بإزعاج لسكّان بلدة "شاتو" الذين تذمّروا مراراً من هذا "الضيف الثقيل"، حتّى أنّ مدرسة البلدة رفضت استقبال ابنته لئلاّ تنقل عدوى مخاطر وجودها فيها نتيجة والدها، إلى رفاقها. ثمّ ألحقت السلطات الفرنسية الصدّيق بجهاز تابع للشرطة الفرنسية يدعى "CRS" الذي يقلّ أهمّية عن الجهاز السابق، وخفّفت التدابير المحيطة بمنزله الفخم، وسمحت له بالسفر مراراً إلى بريطانيا، ومربايا في المغرب لقضاء أمتع الأوقات مع ما أعطي من دولارات، على الرغم من أنّه يخضع "للإقامة الجبرية" التي تفرض المزيد من الحزم والصرامة والشدّة على تنقلاته الضرورية، فكيف بالعادية؟
غاب الصدّيق، فهل نراه ثانية في المحكمة، أم نراه جثّة هامدة إيذاناً بانتهاء دوره التمثيلي لإبقاء من اخترعه ودفعه إلى التزوير وتضليل التحقيق مخفياً؟
الجواب رهن الأيّام المقبلة.
علي الموسوي
الانتقاد/ العدد1262ـ 11 نيسان/ أبريل 2008


2008-04-10