ارشيف من : 2005-2008
الغلاء أزمة فرد ومجتمع
في ظل وضع سياسي بالغ التعقيد والحساسية، يشهد لبنان موجة من التحركات الشعبية المطالبة بتحسين الاوضاع المعيشية الآخذة في التردي على إيقاع هجمة شرسة لغول الغلاء الذي استطاع في فترة قياسية لا تتجاوز عشر سنوات، القضاء على ما بين ثلث القدرة الشرائية لدى المواطنين وربعها حسب أحدث الإحصاءات. فما هي الأسباب التي تقف وراء هذا التضخم المخيف في الاسعار؟ وما هي التأثيرات الاجتماعية لتلك الظاهرة التي رمت شريحة واسعة من اللبنانيين في مستنقع الفقر المدقع؟ والى اي حد أثر الغلاء في نسيج الأسرة واستقرارها؟ وهل من سبيل لتجاوز أزمة ارتفاع الأسعار بما يحفظ صورة الأسرة وتماسكها؟
منذ انتهاء الحرب الأهلية حتى اليوم مرّت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في لبنان بالعديد من الأزمات التي زاد من تفاقمها فشل سياسة إعادة الإعمار عام 1997، بما أنتجته من عجز ومديونية لا يزال المواطن اللبناني يدفع ضريبتهما حتى اليوم. في المقابل وبرغم الغلاء المتزايد سنوياً ووصوله إلى حالة الغليان، لا يزال الحد الأدنى للأجور مثبتاً منذ عام 1996عند 300 ألف ليرة شهرياً! وهو امر لا يمكن لمس تأثيره الفعلي في حياة الناس الا باستحضار الدراسة التي أجراها الاتحاد العمالي العام، والتي توضح أن مؤشر غلاء المعيشة التراكمي منذ عام 1996 حتى منتصف عام 2007، ارتفع بمعدل 63.3 في المئة، 15 في المئة من ذاك الارتفاع حدث بعد حرب تموز عام 2006. من هنا فالدراسة التي تلفت إلى وجوب رفع الحد الأدنى للأجور الى نحو 960 ألف ليرة على الأقل، تصنف ضمنا نسبة عالية من اللبنانيين تحت خط الفقر. فقد بينت دراسة حديثة لدائرة الإحصاء المركزي أن نحو 30 في المئة من الأسر اللبنانية يقل دخلها عن الـ600 دولار أميركي، أي ان هذه النسبة من الأسر تعيش على خط الفقر الأعلى، ومنهم بين 8 و10 في المئة من الأسر التي تعاني الفقر الشديد ولا يتجاوز دخلها الشهري 350 دولاراً أميركياً. كذلك ترافق التراجع المطّرد في القدرة الشرائية مع تنامي ظاهرة البطالة التي بلغت أوجها بعد حرب تموز، إضافة الى ازدياد أعداد المهاجرين سنوياً.
متضررون ومستفيدون
مع اشتداد الغلاء تفقد النقود إحدى وظائفها، وهي كونها مقياسا للقيمة ومخزنا لها، وكلما اشتدت موجة الغلاء انخفضت قيمة النقود، ما يسبب اضطرابا في المعاملات بين الدائنين والمدينين، وبين البائعين والمشترين، وبين المنتجين والمستهلكين. كما يتعرض من يدخرون أموالهم في البنوك لخسائر كبيرة، مع تعرض القيمة الحقيقية لمدّخراتهم للتآكل مع ارتفاع الأسعار. في مقابل أصحاب المدخرات العينية كالأراضي والمعادن النفيسة، الذين يستفيدون من هذا الارتفاع غير المنطقي للأسعار.
هذا فضلا عن ان الغلاء لا يصل الى جميع السلع بالنسبة ذاتها. ففي غمار موجة الغلاء ترتفع اسعار طائفة من السلع والخدمات بسرعة كبيرة، بينما تتغير أسعار طائفة أخرى من السلع ببطء، لتظل طائفة ثالثة جامدة بلا تغيير، الامر الذي يزيد من اضرار الغلاء اجتماعيا، حيث يستفيد البعض من الغلاء ويُضار آخرون.
وينقلنا هذا إلى أثر آخر من آثار الغلاء، هو إعادته لتوزيع الدخل بين طبقات المجتمع بطريقة عشوائية.. حيث ان أصحاب الدخول الثابتة والمحدودة، مثل موظفي الحكومة والقطاع العام، يتضررون بشكل اساس من تضخم الاسعار، لأن دخول هؤلاء عادة ما تكون ثابتة، وحتى لو تغيرت فإنها تتغير ببطء شديد وبنسبة أقل من نسبة ارتفاع المستوى العام للأسعار.. وبهذا تكون دخولهم حقيقة في حالة تدهور. أما أصحاب الدخول المتغيرة كالتجار ورجال الأعمال، فدخولهم عادة ما تزيد مع موجة التضخم، بل إنها في كثير من الحالات ترتفع بنسبة أكبر من نسبة ارتفاع المستوى العام للأسعار، وهم بذلك المستفيدون من هذا التضخم.
وهكذا يفرز الغلاء الناس الى طبقتين: طبقة الفقراء وطبقة الاغنياء، طبقة من المتضررين وطبقة من المستفيدين، بعد ان يلغي الحدود الوسطى بين الفقر والغنى، وهو فرز يستدعيه الوضع الطبيعي. وهذا ما يعزز إحساس الطبقة الفقيرة بالظلم والقهر أمام طبقة غنية قادرة على امتلاك كل ما تحتاجه، فضلا عن كل ما تتمناه دون أدنى صعوبات، وهو ما يحول الطبقة المحتاجة الى طبقة ثائرة، ويخلق وضعاً متأزماً قابلاً للانفجار في اي لحظة. وكثيرا ما سبب هذا الفرز الحاد وغير العادل للناس بين فقراء وأغنياء، الثورات، فضلا عن الاضطرابات.
الفرد في مواجهة الغلاء
لأن الغلاء أحد مداخل الفقر، فإن لاشتداد وطأته العديد من التأثيرات العميقة الغور، ليس في وضع الفرد النفسي والأسري فقط، بل في الوضع الاجتماعي والسياسي العام الذي لا يمكن ان يحافظ على استقراره في ظل شعور الناس بالضائقة المعيشية التي يتسسبب بها الغلاء. وهذا ما يمكن ان يترجم على شكل اضطرابات وثورة نعايش بعض عناوينها بشكل واضح وجلي هذه الأيام.
اختناق أسري
يشعر معيل الأسرة بشكل خاص بالعجز تحت ضغط الغلاء الذي يفقده القدرة على المحافظة على الحياة الكريمة التي اعتاد ان يؤمنها لأسرته، وذلك على الرغم من ازدياد الجهد الذي يبذله على هذا المستوى. وقد يشعر بأن الأسرة التي يعيلها هي السبب في ذلك العجز الذي يعانيه، فيلجأ الى تنفيس احتقانه العصبي داخلها، هذا ان لم يعمد الأولاد والزوجة الى تحميله مسوؤلية تراجع أوضاعهم المعيشية، ما يشكل أرضية خصبة للشجار والمشاحنات.
ومع إلغاء كل الأنشطة الترفيهية للأسرة بسبب الغلاء، تزداد معاناة أفرادها من الضغط الخارجي، وتتحول الأسرة الى ميدان للتنفيس السلبي عن التوترات، وتنتفي متعة الوجود معا تحت تأثير الضغط، الامر الذي يشكل تهديدا قويا لتماسك الأسرة واستمرارها في أداء مسؤولياتها كحاضن للأبناء وكمصدر للطمأنينة والقيم، بالتالي يصبح الطلاق أمرا أكثر امكانية، ويتحول انحراف الأبناء الى تهديد واقعي أكثر اذا لم تكن الأسرة محصنة بما يكفي من القيم والأخلاقيات.
أزمات اجتماعية بالجملة
والفقر الناتج عن الغلاء يفتح بابا واسعا للرشوة والاختلاس والسرقة وكل أشكال الانحراف السلوكي الذي يمكن ان يكون مفتاحاً لتحصيل المال.
كما ان الغلاء الذي يصرف اهتمام الناس الى تأمين حاجاتهم المادية، ويصرف كل وقتهم في ذلك، يضعف العلاقات الاجتماعية لعدم احساس الأفراد بوجودهم، ولعدم وجود الوقت، ولعدم توافر المادة التي تسهل هذه العلاقات.
اضافة الى ان المجتمع يخسر بالفقر المفروض على جميع الأفراد، طاقات أفراده الإبداعية، لأنهم يعملون بروح معنوية منخفضة، ما يقلل من الإنتاج ويزيد في حدة الأزمة الاقتصادية.
هذا الواقع المر الذي يفرضه الغلاء، لا يستطيع مواجهته الا من آمن بأن تراجع المقدرة المادية لديه لا يعني بأي حال من الأحوال فقدان قيمة الذات، وأن الفقر المفروض على حياته نوع من الابتلاء الذي يفترض ان ينتصر عليه، بالصبر تارة وبمواجهة أسبابه ومسببيه تارة أخرى.
منى بليبل
الانتقاد/ العدد1262ـ 11 نيسان/ أبريل 2008