ارشيف من : 2005-2008
روسيا : توظيف في الانتظار!
بالإضافة إلى حرب أفغانستان التي هيمنت على أجواء قمة الأطلسي، جاء انعقاد هذه القمة في بوخارست، بعد ريغا، وهما عاصمتان لبلدين شيوعيين سابقين، ليعكس، بعد عشرين عشر عاماً على انهيار المنظومة الشيوعية وحلف وارصو، إحساس الغربيين بالظفر على منافسهم السوفياتي طيلة حقبة الحرب الباردة التي بدأت مع الحرب الكورية في أوائل الخمسينيات ولم تضع أوزارها، نظرياً، إلا مع انهيار الاتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينيات نظرياً، لأن مراقبين كثيرين اعتبروا أن الحرب الباردة قد عادت إلى الانبثاق مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي بدا مصمماً على استعادة موقع روسيا الدولي، على الأقل منذ تصريحاته اللاهبة في ميونيخ، في شباط/ فبراير 2007. وإذا كان الرئيس بوش قد تعمد الحديث أكثر من مرة، وعلى مسمع الرئيس بوتين، عن نهاية الحرب الباردة، فإنه قد سمع رداً مُرضياً بهذا الشأن، من خلال اللهجة التصالحية التي سادت خطاب بوتين، بشكل بدا متنافراً مع المواقف الروسية الأخيرة المتمثلة بتعليق العمل بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة التقليدية في أوروبا، وعودة الطائرات والسفن الاستراتيجية الروسية إلى الحضور في الأجواء والمياه الدولية، والتهديد بتوجيه الصواريخ الروسية نحو العواصم الغربية، كما كان عليه الشأن إبان الحقبة السوفياتية واحتدام الحرب الباردة.
لهجة بوتين التصالحية لا تنسجم مع كل ذلك، وخصوصاً مع تهديدات روسيا بالويل والثبور فيما لو مضت قضية استقلال كوسوفو قُدماً، وهو الأمر الذي يبدو أن روسيا قد ابتلعته، ربما لأنها تنتظر انعكاسات على صربيا المترددة بين روسيا والغرب من شأنها أن تدفعها إلى المزيد من الجذرية في الالتحاق بالقطار الروسي. وإذا كانت اللهجة التصالحية قد تجلت في سيل المجاملات التفاؤلية بين بوش وبوتين، خلال لقائهما في سوتشي على البحر الأسود، وأثمرت الاتفاق على أطر عامة للتعاون المستقبلي البعيد الأمد، فإنها تعود بالدرجة الأولى إلى النصر الروسي الذي تحقق مع عدم استجابة القمة للرغبة الأميركية في قبول ترشيح كل من أوكرانيا وجورجيا لعضوية الحلف الأطلسي. فقد كانت روسيا واضحة تماماً في هذا الشأن، حيث اعتبر السفير الروسي في الحلف، ديمتري روغوسين، محاولة ضم جورجيا وأوكرانيا بمثابة استفزاز لروسيا قد يفضي إلى حمام دم، إضافة إلى التلويح بأن هذا الانضمام ستكون له انعكاسات تقسيمية على البلدين المذكورين.
لا بل يمكن الحديث عن نصر مزدوج تمثل ليس فقط بإبعاد الأطلسي عن رقعة هامة من خاصرة روسيا الجنوبية، بل أيضاً في كون امتناع القمة عن الاستجابة للمطلب الأميركي قد عكس حالة القلق التي يعيشها الحلف الأطلسي في ظل ما يتراكم عليه من ضغوطات تفرضها المغامرات الأميركية المتزايدة. ففي حين دعمت مشروع الانضمام دول يمكن وصفها بالهامشية كبولندا وبلدان البلطيق، عارضته كل من ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وبلدان البنيلوكس. ولولا التسوية التي تمت بقبول ترشيح بلدين ثانويين، لبعدهما النسبي عن أعتاب روسيا، هما كرواتيا وألبانيا بدلاً من أوكرانيا وجورجيا، لكان من الممكن للحلف الأطلسي أن يشهد تصدعات أكبر في ظل ظهور المزيد من الأفكار الأوروبية التي ترى في الولايات المتحدة مصدر خطر حقيقي على أمن أوروبا والعالم.
فأوروبا لم تنس في الواقع حروبها الداخلية التي كانت في طليعة أسباب تحول الولايات المتحدة إلى قطب عالمي، كما لم تنس الضرائب الباهظة التي دفعتها لأميركا ثمناً لخوفها الذي أجّجته واشنطن من البعبع السوفياتي. وهي لا تبدو مستعدة الآن للانخراط فوق أراضيها في ألعاب توازن الرعب مع روسيا، وما يعنيه ذلك من الاضطرار إلى دفع مبالغ خيالية لشراء حصص في درع صاروخية مفتعلة قد تكون أهدافها الواقعية بعيدة كل البعد عن أهدافها المعلنة. ثم إن أوروبا تتطلع إلى مستقبل تصالحي مع روسيا يبعدها عن المواجهات العسكرية الخطرة، ويجنبها البرد القارس في وقت بدأت فيه موسكو فعلاً بتثمير سلاح الغاز في الحرب الاقتصادية.
وبالإضافة إلى الفتق الأطلسي الذي نجم عن مسألة أوكرانيا وجورجيا، حققت روسيا مكسباً آخر، على مستوى المسائل الخلافية الأساسية، من خلال عدم تخليها عن رفضها لفكرة الدرع الصاروخية، وإبداء استعدادها للدخول في نظام دفاعي دولي لا يكون مرتهناً للإرادة الأميركية، ما يرفد فكرة التخلي عن عقلية القطب الواحد، وهي الفكرة التي تدعو إليها روسيا وتنظر إليها بعين الرضا قوى كبرى أخرى داخل أوروبا وخارجها. وإذا كان بعض المراقبين قد رأوا في اللهجة التصالحية الروسية مؤشراً على تراجع روسي، فإنهم يتجاهلون حسابات بوتين المستمر في حكم روسيا بشكل أو بآخر إزاء بوش المشرف على نهايته، وهي حسابات تستند فيما يبدو إلى الاستثمار في الانتظار: هنالك روسيا التي عادت إلى بناء نفسها بخطى واثقة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً. وهنالك أميركا الموغلة في التآكل من خلال أزمتها المالية ومآزقها العسكرية والارتياب المتبادل بينها وبين حلفائها. لِمَ العجلة إذاً؟ يقول بوتين في سره.
ع.ح.
الانتقاد/ العدد1262ـ 11 نيسان/ أبريل 2008