القاهرة ـ عصام حنفي
لم تكن الساحة المصرية مهيأة للعواصف السياسية بفعل ضغوطات اقتصادية واجتماعية مثلما هي اليوم, فمصر التى أعلنت حرب أكتوبر "تشرين" آخر حروبها الرسمية, تشهد أصنافا جديدة من الموت بعيدا عن ميادين القتال بشكل متواتر ربما تجاوزت أعداد ضحاياه شهداء الحروب, من كوارث القطارات المحترقة الى العبّارات الغارقة, والشعب الذي يعتمد الصبر ـ برغم الارتفاع المطّرد في الأسعار ـ منهجا لحياته اليومية والذي استمع الى وعود الرخاء القادم مع السلام وما يوفرة من آفاق للاستثمار, يشهد اليوم الذى تحولت فيه طوابير انتظار الخبز الى ساحات معارك ليضاف نوع جديد من الشهداء يعرفون بشهداء الخبز, ومن الطريف التذكير بأن مفتي الجمهورية قد اعتبر قتلى محاولات الهجرة عبر البحر الى اوروبا غير شهداء، واتهمهم بالطمع فى عرض الدنيا.
كان عمال المحلة قد أضربوا واعتصموا خلال شهر أكتوبر "تشرين الأول" المنصرم مطالبين بحقوق لهم في الأجور والأرباح، ما دفع الحكومة للاستجابة لمجمل طلباتهم، الا أن التقاعس فى تنفيذ بعض البنود المحدد له زمنيا شهر آذار/ مارس دفعهم الى الدعوة الى اعتصام محدود لمدة ساعتين فى 6 نيسان/ أبريل الجاري في تمام الساعة الثانية بعد الظهر, الحركة المصرية من أجل التغيير "كفاية" قررت الدعوة الى وقفات احتجاجية محدودة فى ذات اليوم ببعض عواصم الأقاليم تضامنا مع عمال المحلة وضد الغلاء وارتفاع الأسعار, الأحزاب الرسمية المعارضة لم يتم التنسيق معها, المشهد وفق المصادر المعلومة في الحركة العمالية أو "كفاية" يتضمن احتجاجا محدودا وموقوتا أيضا.
المثير للجدل أن الدعوة للاضراب والعصيان المدني العام صدرت عبر صفحات الكترونية غير محددة الهوية وعبر رسائل الهاتف الجوال لتسري كالنار في الهشيم وتصبح حديث الناس ممن لا يمتلكون أجهزة حاسوب ولم يدخلوا يوما لعالم شبكة الانترنت!!
سريعا ما دار حديث الشارع عن اغلاق للمحال التجارية وامتناع للطلاب عن الدراسة والموظفين عن الذهاب لأشغالهم صاحبته تهديدات رسمية وعبر شاشة التلفاز الرسمي بعقاب من يتجاوب مع هذه الدعوة, مع استنفار ذي صبغة امنية في قطاع التعليم حيث تم تحديد هذا اليوم بذاته في عدد كبير من المدارس لاجراء اختبارات دورية في غير أوانها لدفع الطلاب الى مقاعد الدراسة.
الوجود الأمني الكثيف فى غالبية المواقع المحددة للوقفات الاحتجاجية واعتقال النشطاء مبكرا واعتبار بعضهم مطلوبين ـ حتى الساعة ـ وبتوسع غير مسبوق حيث شملت المطاردات رموزا سياسية ونقابية مستقلة وفى مراحل عمرية متقدمة, ساهم الى حد كبير فى حصار لهيب الغضب بالقاهرة وبعض المناطق، الا أن المشهد اختلف كثيرا فى الأماكن ذات الكثافة العمالية الكبيرة مثل مدينة طنطا وفي الاسكندرية ـ العاصمة الثانية ـ فقد التزمت المحال بدعوة الاغلاق وبدت أغلب الشوارع خالية من المارة.
وتتصاعد سخونة المشهد مع تزايد الكثافة واللحمة العمالية في مدينة المحلة قلعة صناعة النسيج العريقة الذي يعد منتجها الوحيد تقريبا, وتضم عمالا ذوي خبرات نضالية وتجارب في مواجهة سياسات الخصخصة والاحالة للتقاعد المبكر, عانوا الكثير جراء تدهور الانتاج الزراعي منذ اعتماد سياسة الوزير الأسبق يوسف والي بتحرير الزراعة والاهتمام بزراعة الفواكه كالفراولة والكنتالوب ما أثر سلبا على انتاج المحاصيل الاستراتيجية مثل القطن والقمح, ويعد القطن المادة الخام الرئيسة لمعامل المحلة, ثم تطبق الأزمة الاقتصادية الخانقة بنقص القمح والخبز.
الأجواء فى المحلة هيأت للانفجار الكبير الذي حول المدينة لساحة مواجهات دامية على مدى الأيام الماضية شملت استخدام الغاز والرصاص المطاطي، وأسفرت عن عدد من القتلى وعشرات المصابين بعضهم بحالة خطيرة خاصة اصابات العيون, وما زال التوتر يلف أرجاء المدينة شبه المحاصرة عسكريا مع حظر شامل للتجوال وتم نقل الجثث الى مدينة المنصورة والمصابين أيضا للعلاج بعيدا عن موقع الأحداث, مع قطع شبه كامل للمواصلات البرية والسكك الحديدية الى باقي مناطق الجمهورية.
يلقي بعض المراقبين باللوم على القوات التى رغبت فى اجهاض الاعتصام العمالي سريعا فتسببت باشعال فتيل الاحتقان, ويتحدث د.احمد نظيف رئيس الوزراء ابان زيارته الخاطفة للمدينة برفقة وزيرة القوى العاملة عن "الشرذمة الخارجة عن القانون والداعية للاضراب" مع وعد بالاستجابة لكافة المطالب العمالية مصحوبا بمكافأة مالية "أجر شهر لكل عامل".
الشرذمة تجاوزت أعداد المعتقلين منها والمعروضين أمام جهات عدلية "الألف" بمدينة المحلة وحدها بؤرة الحدث, ما شكل أزمة فى أعداد المحامين المتطوعين للدفاع عنهم، ويتنادى النشطاء الحقوقيون بتشكيل وفود اغاثة من المحامين تتوجه الى مدينة المحلة لأداء واجب الدفاع عن المتهمين.
على خلفية المشهد جرت وقائع انتخابات المجالس المحلية التي تزايدت أهميتها بعد اشتراط حصول المرشح لمنصب رئيس الجمهورية على نسبة من تأييد أعضائه, التجاوزات المرصودة بدءا من الامتناع عن قبول أوراق المرشحين وصولا الى التصويت وما صاحبه من منع المواطنين من دخول اللجان وتأدية البعض للواجب نيابة عنهم ربما تكفي لنفي الصفة الانتخابية عما جرى, الاخوان المسلمون بدوا بعيدين عن مكنونات الغضب الشعبي ومشدودين إلى مفردات اللعبة الليبرالية منذ قرار المشاركة في الانتخابات واعتبار ذلك "فرض عين" وفق تصريح المرشد وصولا الى اعتبار المقاطعة " فرض واجب ", يأتي ذلك فى وقت تتراجع فيه مصداقية المراجع الأصولية للجماعة مذ صرح العريان أرفع مسؤول سياسي بالاستعداد للاعتراف باسرائيل فور الوصول للسلطة، ثم صرح بأنه يقصد سياسة الحزب المزمع وليس الجماعة أو يقصد التعامل بواقعية, وبرغم الاعتقالات في صفوف القيادات الوسطية للجماعة قام قياديوها النقابيون بدور ملموس فى تخفيف احتقانات بوسط أساتذة الجامعات والأطباء.
ربما تهدأ الأوضاع فى مدينة المحلة لكن يبدو ان مبادرات الغضب انتقلت من أروقة النخب بكافة أطيافها الى عمق الشارع وهذا يحمل من النذر الكثير.
الانتقاد/ العدد1262ـ 11 نيسان /أبريل 2008