ارشيف من : 2005-2008
.. في غزة حصار يطبق على الأنفاس
فلسطين ـ خضرة حمدان
حزينة.. هكذا بدت، شاردة لعلّها تراه في مكان ما، اقتربت من خزانته الصغيرة ذات الألوان السحرية والتقطت ملابسه احتضنتها لتشم ما بقي من أثر رائحته، فحصار غزة لم يدعها تتمتع بأيام طفولته وبضحكاته الرنانة في زوايا البيت العتيق.
اختطفه "الموت والحصار و"لا" صهيونية"، ومنعته كلمة مرفوض أمنياً من الاستشفاء في مستشفيات الداخل الفلسطيني، فغزة حيث وُلد محاصرة ودواؤها ينفد وأسرّة مرضاها تغادرها الآمال بالشفاء.
والدة الطفل محمد إيهاب هنية (32 عاماً) لن تنسى يوماً لماذا غادرها طفلها الحبيب، ولن تسامح من قتل فلذة كبدها واختطف فرحتها التي لم تكتمل، ولكنها تقول بقوة: "مهما حاصرونا سنبقى مؤمنين متمسكين بالأرض المقدسة ولن نغادر".
حاولت أن تسير إلى سريره الصغير فخانتها الخطى تثاقلت فسقطت أرضاً، ارتعشت عندما تذكرت آخر ضحكة له، فمحمد احتضنته ذراعاها لتسعة أشهر فقط، واحتضنه سرير المشفى لأشهره الخمسة الأخيرة من حياته، كم تمنت أن يكون لابنها الأكبر أخ يلاعبه يلاطفه ينام معه في غرفه واحدة بجوار غرفة أخواته الثلاث، فرحت لولادته كثيراً لأن ما تمنت قد تحقق، ولكنها فرحه ناقصة فكانت بداية العذاب "ثقب في القلب والتواء في الأمعاء" هذا ما أكده الأطباء لأم محمد بعدما شعرت بمرض ما انتاب أوصال طفلها الصغير قبل خمسة شهور، "حصار ورفض سفر تحت دواع أمنية"، كانت رحلتها مع العذاب وهو ما لم تحسب لها هذه الأم حسابا.
أربعه عشر شهراً فقط عمر الضحية الأخيرة للحصار الصهيوني المفروض والمحكم على هواء غزة بحرها سمائها أرضها.. مرضاها يموتون رويداً رويداً واحداً تلو الآخر، وعالم صامت يعلم أن أطفال غزة كما محمد هنية يتساقطون ضحايا بسبب إغلاق المعابر ولا يحرك ساكنا أحد.
تقول والدته المفجوعة: "لا أتمنى لأي أم فلسطينية أن يمنعها الحصار عن تقبيل فلذة كبدها، أو أن تراه أسير فراش المرض أمام ناظريها، وليت ابني محمد آخر ضحايا الحصار".
ضحايا الحصار يتساقطون...
محمد هنية كان الضحية الـ123، لم يسمح له بنيل تصريح دخول للخط الأخضر برغم صغر سنه، وهي الحال ذاتها مع كبار السن أيضاً، فالحاج محمد الفاهول يقول: "أصبت بتضخم في الكلى بشكل مفاجئ، وعندما حاولت الحصول على تصريح كان الرد "مرفوض أمنياً" بالمرصاد، ويضيف: "يا عالم بدّي أتعالج افتحوا لنا معبر رفح فأطفالنا يموتون ونحن كذلك ولا أحد يحرك ساكنا".
ابنته طالبة في الفصل الثاني عشر قالت: "أنا في الفصل الثاني عشر ويجب أن أدرس بجد واجتهاد، تخيلوا كيف يمكن ان أعيش وأنا أرى والدي يموت كل دقيقة امامي .. كل حياتنا أصبحت حزينة، وأتمنى لو كان بيدي حيلة لأساعد والدي المريض ولكن...!!".
وفي اليوم نفسه الذي توفي فيه الطفل محمد هنية ارتفع عدد الضحايا جراء الحصار إلى 124 بوفاة المواطنة عطاف زقوت (52 عاما) بسبب تأخير سفرها لتلقي العلاج لأكثر من مرة، وأكد ذووها أنها استطاعت السفر إلى مصر الأسبوع الماضي، ولكن بعد فوات الأوان حيث تفاقمت حالتها الصحية.
مأساة الحصار تتحول إلى ملهاة عندما يموت أشقاء عرب داخل قطاع غزة يمنعهم إغلاق معبر رفح من العودة إلى حيث يقطنون، لعلّهم يجدون هناك من يشفي جراحهم ويلملم آلامهم، فالمبكي أن المواطن المسن محمد حمدونة قدم إلى قطاع غزة زائراً برفقة زوجته وطفلتهما، وعندما همّ بالرحيل أغلقت دونه المعابر فمات متحسراً على من تبقى من أفراد عائلته في مصر حيث يقطن، وبذلك يرفع ضحايا حصار قطاع غزة إلى 125 ضحية، والعدد في تزايد مخجل محزن...
لماذا يموتون؟؟
اللجنة الشعبية لمواجهة الحصار في قطاع غزة التي ترصد تساقط الضحايا وتحذر من موت بطيء يتسلل إلى قرابة 1000 مريض كانوا 1200 حمّلت الكيان الصهيوني المسؤولية الأخلاقية والقانونية الكاملة عن تصاعد وتيرة موت المرضى الذين وصل عددهم في الثالث من نيسان/ ابريل الجاري إلى 124 مريضاً.
رامي عبده الناطق باسم اللجنة الشعبية لمواجهة الحصار قال: "إن تصاعد وتيرة سقوط الضحايا في الفترة الأخيرة يعود بشكل أساسي إلى ارتفاع نسبة من ترفض قوات الاحتلال سفرهم عبر معبر بيت حانون"، حيث شهد شهر آذار/ مارس الماضي أعلى معدلات الرفض من قبل الاحتلال وبشكل مباشر تم رفض 67 طلباً للعلاج، فيما رفض الرد على نحو 411 طلباً، وهو ما يعني رفض الاحتلال لنحو 478 طلباً من أصل 968 طلباً قدمت في شهر آذار/ مارس، وهو ما يمثل معدل 49.5% من الطلبات المقدمة.
الإحصاءات بدورها تشير إلى أن الاحتلال كان يرفض ما نسبته 20 إلى 25% من طلبات المغادرة للعلاج ما قبل شهر كانون الثاني/ يناير، إلا أنه بعد هذه الفترة ازدادت معدلات الرفض بنسبة كبيرة جداً، وهو ما يعكس حقيقة استهداف الاحتلال للمرضى من النساء والأطفال بالدرجة الأولى، والحالات الخطرة من الرجال بالدرجة الثانية.
وليس الأمر محلياً فقط فقد حمّلت منظمة الصحة العالمية الاحتلال الاسرائيلي المسؤولية المباشرة عن تساقط الضحايا من المرضى جراء الحصار المفروض على قطاع غزة منذ ما يقارب 9 أشهر، حيث اكدت ان نسبة الرفض الامني للمرضى من القطاع ارتفعت في الاشهر الاخيرة من نسبة 6 في المئة الى ستة وأربعين.
غزة تفتقر إلى ...
تفتقر غزة إلى الدواء، الغذاء والملابس وأكفان الموتى... تفتقر إلى هواء الحرية وتفتقر إلى إرادة حقيقية عربية واحدة لرفع الحصار عن مليون ونصف المليون نسمة يموتون بسبب ضيق العيش، يحاولون التنفس فتباغتهم طائرات العدو تمنع عنهم الأنفاس...
الانتقاد/ العدد1262ـ 11 نيسان/ أبريل 2008