كتب يحيى دبوق
تظهر مناورة اسرائيل الكبرى، وطريقة الاعداد لها، اضافة إلى المدة التي استغرقتها وحجم المشاركة فيها والسيناريوهات المتعددة المطروحة والمنفذة في الايام الخمسة التي استغرقتها، مع استحضار للتعليقات والتصريحات الاسرائيلية التي واكبتها واعقبتها، ان التداعيات السلبية على الكيان الاسرائيلي لحرب تموز عام 2006، والهزيمة التي تلقتها اسرائيل خلالها، هي اكبر بكثير من الاعتقاد السائد منذ انتهاء الحرب.
اذا كانت اسرائيل تستعد، أو تعد، لحرب مقبلة، بغض النظر عن استهدافاتها، فان عليها ان تعد أو تستعد لحرب اقليمية شاملة، يكون للجبهة الداخلية النصيب الاكبر فيها، لانها هي الخاصرة الاكثر ايلاما والاكثر ضغطا على متخذي القرارات في الكيان الاسرائيلي، وهذا ما خلصت اليه استنتاجات لجان التحقيق المختلفة التي اعقبت هزيمة تموز 2006، والتي درست مجريات الحرب وطرق اتخاذ القرارات فيها، واسلوب تنفيذها ونتائجها.
والاستعداد للحرب أو الاعداد لها، بمعنى المبادرة أو التحسب، يعني اعدادا واستعدادا عسكريا ومدنيا. من الناحية العسكرية جرى التشديد في اسرائيل على ان الجيش الاسرائيلي قام بسلسلة من التدريبات والمناورات منذ انتهاء الحرب، لحظ فيها كل دروس الحرب الاخيرة وعالج كل الثغرات التي برزت فيها، واشارت اوساط عسكرية اسرائيلية في اكثر من محطة خلال الشهور الماضية، الى ان اسرائيل اصبحت اكثر قوة من ذي قبل، بل ان وزير "دفاع" اسرائيل إيهود باراك يشدد على ذلك ويكرر انها الاقوى "في شعاع 1500 كيلومتر"، والمقصود هناك دائرة تستوعب اضافة إلى لبنان وقطاع غزة وسوريا، الدولة الاكثر ثقلا في محور الممانعة، وهي ايران.
ويمكن القول ابتداء، انه اذا كانت الاستعدادات والتدريبات والمناورات العسكرية قد جرت كما هي الحال في تدريبات المناورة الداخلية الكبرى هذه الايام، فان متخذي القرار في اسرائيل توصلوا إلى نتائج سلبية بالتأكيد، حيث ان مناورة الساحة الداخلية اثبتت نقصا في الاعداد والتجهيز، وقصورا في طرح حلول للسيناريوهات الممكنة، وهو ما اشار اليه اكثر من معلق عسكري اسرائيلي، سنشير إليه في السياق.
في التأسيسات المركزية لمكانة الجبهة الداخلية الاسرائيلية، يمكن القول ان حماية "الجبهة المدنية" الاسرائيلية، خلال الحرب أو المواجهات، بمعنى المستوطنين في المدن والمستوطنات المختلفة والمنشآت المدنية والحيوية في الكيان الاسرائيلي، هي موضوع مركزي مرتبط بوظيفة الجيش الاسرائيلي منذ تأسيسه، إذ ان احد عناصر النظرية الامنية للكيان، هي حماية "المدنيين الاسرائيليين" وتمكينهم من ادارة حياتهم بشكل طبيعي خلال الحروب، واشعارهم بأن أي حرب تخوضها اسرائيل لن يتأثروا بها ماديا وبشكل مباشر، وانعكس هذا العنصر الاساسي كمفهوم، إلى عناصر فرعية أخرى تجلت ببنود جرت صياغتها في اساس النظرية الامنية الاسرائيلية، ومنها نقل المعركة إلى ارض العدو بسرعة، حيث ان الهدف من ذلك، وبشكل اساسي، تقليص الاضرار اللاحقة بالجبهة الداخلية الاسرائيلية.
المبدأ المشار اليه، جرى سحقه في حرب تموز 2006، واستطاعت المقاومة الاسلامية من لبنان امطار المستوطنين يوميا، طوال 34 يوما، بمنسوب شبه مستقر من الوجبات اليومية، الامر الذي سجل فشلا ذريعا للقدرة العسكرية الاسرائيلية وخرقا فاضحا للنظرية الامنية لدى الكيان.
الاشكالية الاساسية التي برزت في اعقاب الحرب، اضافة إلى اشكاليات أخرى لا تقل اهمية واقلاقا للاسرائيليين، هي كيفية حماية الجبهة الداخلية الاسرائيلية في حال تجدد المواجهات، وتحديدا شمالا، بعد التقارير المقلقة في اسرائيل والتي تحدثت عن تجدد وتعاظم الترسانة المعادية في الشمال، بما يزيد اضعافا عما كانت عليه عشية حرب تموز 2006.
واذا كانت اسرائيل تستعد للحرب، سواء للبدء فيها أو لمواجهتها في حال "تدحرج" التصعيد القائم حاليا إلى مواجهة أو حرب، فعليها ان تعمل على اعداد جبهتها الداخلية لمواجهات تقدر انها اكثر قساوة من المواجهة التي خبرتها في الحرب الاخيرة، بل عليها، كما يقول المحللون الاسرائيليون، ان تعد "مواطنيها" إلى مواجهة تتحول إلى حرب اقليمية، بما يشمل سوريا وايضا ايران، بحيث تتساقط الصواريخ على كل المدن الاسرائيلية وبكثافة، وهي صواريخ ثقيلة جدا، تجبي اثمانا باهظة بشرية ومادية وتضغط على الداخل الاسرائيلي ومتخذي القرار فيه، باتجاه انهاء الحرب المستقبلية بنتائج مغايرة للحروب التي اعتادت خوضها مع العرب في السابق.
ويمكن رسم معادلة رياضية تربط بين التهديدات المقدرة اسرائيليا، وبين منسوب الاستعداد لها، بمعنى ان حجم الانشغال الاسرائيلي في الاستعداد للحرب، وحجم التدريبات والمناورات والاستعدادات، وهي استعدادت هائلة، شملت الاجسام العسكرية والمدنية في اسرائيل، يشير الى المدى المقدر لدى المؤسستين السياسية والعسكرية الاسرائيليتين، لحجم التهديد القائم والممكن ان يفعّل ضد الاسرائيليين، إن نشبت حرب مستقبلية معها.
وبمعنى من المعاني، لا يمكن لاسرائيل ان تباشر حربا الا بعد اعداد "مواطنيها" لتلقي ضربات قاسية، قد تكون قاسية جدا، خاصة ان التقدير الاسرائيلي يشير الى ان الحرب المقبلة لن تقتصر على طرف واحد فقط بل ستجر اليها كل الاطراف المعادية لاسرائيل، بدءا من قطاع غزة مرورا بلبنان وسوريا، ووصولا الى الخطر الكبير المتمثل بايران. وتأتي المناورة الحالية في هذا السياق.
لكن بمعنى اخص، هل تعني مناورة الداخل الاسرائيلي، الكبرى، اشارة او دليلا على وقوع الحرب في المستقبل القريب، والقريب جدا. المسألة تحتاج الى تأمل اكثر وتجميع اشارات دالة اخرى، خاصة ان الفاصل ما بين حرب مسحوبة من تصعيد وتوتر غير مضبوط تنجر اليه المنطقة وبين حرب مقررة مسبقا، قد يكون في الواقع الحالي فاصلا شفافا جدا، وتشتد شفافيته مع عدم وجود قواعد لعبة بين الاطراف مع بنود وخطوط واضحة وقائمة ومترسخة. وفي الحالة الإسرائيلية قد لا تكون هناك قواعد لعبة في الاساس، اذا ما جرى استحضار العامل الاميركي في المنطقة وقدرته على تطويع اسرائيل في أية لحظة تجاه توظيفها عسكريا في مواجهات تخدم السياسة الاميركية في المنطقة. وهو ما برز تحديدا في حرب تموز عام 2006.
لكن ما الذي برز في المناورة الحالية. انها محاولة لمحاكاة حرب لم تعتدها اسرائيل، وشملت كما هو ظاهر من الاعلانات الاسرائيلية السابقة والمواكبة لهذه المناورة، ثلاث طبقات مستهدفة فيها، تختلف باختلاف الجهة المستفيدة منها:
اولا: مستوى القرار السياسي، وآلية اتخاذ القرارات خلال الحرب او ازمة طارئة، وهو ما ثبت بحسب لجان الفحص المختلفة لمجريات الحرب عام 2006، وفي مقدمتها لجنة فينوغراد، فشله بشكل كبير جدا.
ثانيا: المستوى الثاني والمتعلق بقيادة الجبهة الداخلية الاسرائيلية، التابعة للجيش الاسرائيلي، والتنسيق الواجب اتباعه مع هيئة الطوارئ الجديدة، التي جرى تأسيسها بناء على عبر الفشل في حرب تموز 2006.
ثالثا: المستوى الجماهيري، أي الإسرائيليون أنفسهم، وتأهيلهم لمواجهة التهديدات وسقوط الصواريخ وحالات الطوارئ خلال الأزمات، ومنها الحرب العتيدة بالطبع.
وفي المستويات المشار اليها، عملت المناورة على محاكاة اكثر السيناريوهات الممكنة، وطرحت اساليب لمعالجتها، وبرزت فيها سلسلة من الإخفاقات والفشل، بدأت تظهر الى العلن في اليوم الثاني للمناورة، أي في اليوم الذي بدأت تحتك مع الجمهور الاسرائيلي، من دون اشارة الى الفشل الحاصل في الغرف المغلقة، التي يمكن ان يتم اخفاؤها، وهي تنحصر فقط بين مستويات القرار السياسي والعسكري والمستويات التنفيذية في المؤسسة العسكرية وفروع الخدمة المدنية الاخرى المسيطر عليها من قبل المؤسسة الحاكمة.
في تحليل ابتدائي لمجريات المناورة وما رشح عنها، يمكن الإشارة الى التالي:
تقر المناورة، وأصل وجودها والسيناريوهات الموجودة فيها، ان النظرية الامنية الاسرائيلية لم تعد قائمة. وتحولت ميزة "امان" الجبهة الداخلية التي تمتعت بها اسرائيل منذ انشائها في العام 1948، الى واقع أليم، يتوجب على صاحب القرار في الكيان ان يستحضره قبل اقراره أي عدوان او حرب.
تكشف المناورة حالات ضعف اسرائيل، منها ان الحرب المقبلة ستكون حربا باهظة الثمن اسرائيليا، بل تقر في احد سيناريوهاتها ان صاروخا واحدا، كصاروخ يصيب منشآت حيفا الاستراتيجية (البتروكيمائية)، سيلحق اضرارا في الارواح الاسرائيلية تصل الى عشرات الالاف، وهي حالة قد لا تقوى اسرائيل على الاستمرار ومواصلة الحرب، إن وقعت.
تكشف المناورة ايضا، السرعة والعجالة في الاعداد لها، على احسن تقدير، وفشل واخفاق على اقرب تقدير، اذ برز في مجريات اليوم الثاني والثالث، فشل في التحضيرات المادية لتمكين المناورة من الانطلاق والمحاكاة بشكل كامل لحالات الحرب، ومنها الفشل في اطلاق صفارات الانذار في اكثر من مكان في الكيان، بل ان غرفة ادارة الحرب نفسها لم يصلها صوت الصفارات، كما اشارت الانباء الاسرائيلية.
تثقل المناورة بسيناريوهاتها على مهمة الجيش الاسرائيلي، فاذا كانت المؤسسة العسكرية الاسرائيلية تهدف في حروبها السابقة هزيمة العدو، او دفعه الى الاستسلام عن طريق "اسلوب التأثير غير المباشر"، من خلال القصف المدمر او الحاق الاضرار المادية الجسيمة به، اصبح لزاما عليها ان تنهي الحرب بسرعة عن طريق السيطرة والاحتلال المباشر على مناطق العدو لتمنع تساقط الصواريخ على الجبهة الداخلية.. واذا كانت بعض هذه الصواريخ ثقيلة جدا وتبعد مسافات بعيدة جدا، فهناك شك في ان تنجح القوات الاسرائيلية في السيطرة عليها.
الانتقاد/ العدد1262ـ 11 نيسان/ أبريل 2008