ارشيف من : 2005-2008

المقاومة والفن الغنائي الملتزم

المقاومة والفن الغنائي الملتزم

د. وسام حمادة
لم تكن الاغنية الملتزمة منوطة بزمان ومكان معين، انما ظهر مفهوم الاغنية الملتزمة في الوسط الفني كشعار بعد شيوع تنظيرات الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر حول الادب الملتزم.
وبرزت الاغنية الملتزمة في زمن المد الثوري في كل بقاع الارض خاصة في الستينات وحتى يومنا الحالي، وكانت تعني الاغنية السياسية الثورية برغم اعتقادنا ان هذا المفهوم جزئي، اذ ان الاغنية الملتزمة يمكن ان تصنف بثلاثة عناوين رئيسية: اولا الاغنية الوطنية التي تدعو للمقاومة وتحرير الارض والتغني بالوطن، أما الاغنية الاجتماعية فتسلط الضوء على الواقع الاجتماعي والاقتصادي الداخلي، وثالثا الاغنية السياسية وهي أغنية حزبية خاصة تقوم بالتحريض والدعوة لحزب معين لاستلام السلطة وما شابه. واكثر ما اطلق من الاغنيات الملتزمة هي الاغنيات الوطنية والاجتماعية على عكس ما هو متداول ومعروف بأن الاغنية السياسية هي الطاغية على باقي التعريفات. وقد ساهمت الانظمة في خلق هذا الواقع لما لها من مصلحة في تعميق اشكالية التعريفات لهذا النوع من الفنون واضفاء صبغة سياسية لتتمكن بذلك من محاربة ومحاولة القضاء على هذا النوع من الفنون خاصة في مطلع القرن العشرين الذي يعتبر من اكثر الحقبات شراسة ودموية. كما كانت الاغنية الملتزمة مرتبطة منذ الستينات ايضا بالحركات اليسارية الثورية المنادية بالعدالة والديمقراطية والحرية والمساواة، وفي السبعينات برز امتداد للاغنية الملتزمة اليسارية لتشمل اليمين ايضا عبر اطلاق الاغنية الملتزمة الدينية المحرضة عقائديا عبر النص واللحن.
ومن المتداول ان الفن الملتزم كان ولا يزال يقيّم على اساس العضوية في الحزب اليساري او الاسلامي، وبرزت محاولات فردية في نهاية القرن العشرين لعدد من الفنانين الذين حاولوا اسقاط الهالة الحزبية عن كاهل الاغنية الملتزمة واطلقوا الاعمال الوطنية والاجتماعية المحرضة في سبيل العدالة والديمقراطية وتحرير الارض والانسان.
وقد حاولت الانظمة بالترغيب احيانا والترهيب احيانا اخرى ان تقضي على هذا النوع من الفنون لما يحمل من مواد تحريضية تقض مضاجع هذه الانظمة الرجعية والمتخلفة والمستبدة بخيرات شعوبها.
ان مفهوم الاغنية الملتزمة مفهوم انساني بحت، ولا تكون الاغنية ملتزمة دون انسجام داخلي بين مكوناتها، اي مصالحة بين النص الشعري واللحن والتوزيع الموسيقي والاداء الصوتي.
ولقد رُبطت الاغنية الملتزمة بالموقف السياسي ولذلك كان هذا المفهوم مجحفا بحقها. ولم يتقدم الا القليل من الباحثين والنقاد في الفن الموسيقي الغنائي بأبحاث موضوعية لهذا النوع من الفنون.
كما كان للانظمة ولشركات الانتاج والاعلام الموجّه الحصة الكبرى بعدم انتشار هذا النوع من الفنون ومحاولة ربطه دائما بالحدث. اذ أنّ وسائل الاعلام المرئي والمسموع والفضائيات على أنواعها وانتماءاتها لا تقوم ببث هذا النوع من الاغاني الا عند حدوث كارثة أو اعتداء أو مجزرة أو تمجيد وتبجيل لقادة وحكام بهدف اظهارهم على غير حقيقتهم من خلال الاعياد والمناسبات الوطنية.
 ان الدور الاساسي للاغنية الملتزمة ان تكون محفزة للذاكرة ومستشرفة للاحداث القادمة لتكون الامم والشعوب على دراية بالمخاطر التي تحدق بها ولتكون أيضا على استعداد دائم لحماية أوطانها من أي اعتداء خارجي ومحصّنة من أي اعلام وثقافة مدسوسة.
ومن المستهجن أن الاعلام بشكل عام والعربي بشكل خاص برغم كل ما نتعرض له من مآس وجراحات يقوم بابراز الاغنية المنفصمة الشخصية، المفككة المعالم، والتي لا يربط بين مكوناتها رابط. فالاغنية الحديثة كما يطلق عليها في هذا الزمن تعتمد في وجودها ككل على النمطية في كل شيء، فالايقاع جغرافي محلي والغزل الفاشل المرتجل هو النص والوجه المعروف صالح لغناء كل الانماط الموسيقية، والنتيجة هي ملء الفراغ بالكثير من الذبذبات الصوتية ما دامت الطبيعة كما قال ارسطو تخشى الفراغ!!... 
فاذا كان ضروريا للفن ان يكون ملتزما فأعتقد انّ عليه ان يلتزم بالمصالحة مع ذاته ومع مكوناته الداخلية، اي أن ينظم الشاعر قصيدة يستشعرها، وأن يترجم المبدع القصيدة الى أنغام، وأن يقتنع المؤدي بما يغنيه ويجسده ما دام هو مجرد معبر لرحلة الاغنية الى وجدان وعقول الجمهور، ومحفز لحالة وطنية عامة.
ان الفن الملتزم نافذة للتعبير عن مكنونات الذات لذلك فهو لا يمكن أن يكون معبرا الا بواسطة ذات مغنّية تستحضر التجربة والحدث المُتغنى به، وتتوحد معه بحثا عن الصدق الفني وعن الصدق الوجودي الذي يعلمنا كيف نكون نحن وكيف نكون أنفسنا.
ان مجتمعاتنا التي تعاني من الارث الثقيل للازدواجية بين الاصالة والمعاصَرة، بين الشرق والغرب، بين القديم والحديث لا يمكنها في أي عصر من العصور أن تكون ملتزمة بمرجعية من المرجعيات دون أن تكون متصالحة مع ذاتها. فالعلاقة بين الفن الملتزم والجمهور هي علاقة انسانية صادقة ذات طابع وجداني لا علاقة تنازل أو تجاهل، والابداع الملتزم هو ابداع تواصل يطلق العنان للمشاعر الانسانية النبيلة، ويُشعر الناس بحريتهم ويستدرجهم للاستمتاع بها.
والابداع الفني مطلب وجودي يتمظهر في شكل واجب ينتظر من الجمهور القيام به من خلال الوعي بحريتهم وأنسنتهم واستثمار هذا الوعي والانسنة.
ان المجهود الذي يبذله كل مؤد لهذا النوع من الفن قبل اخراج عمله للوجود يجب أن يرتبط بصدقية كاملة بين النص واللحن والاداء، والعلاقة مع المتلقي، اذ لا يمكن لهذا النوع من الفنون أن يصل الى مشاعر وذاتية المتلقي، اذا كان المؤدي غير مؤمن وغير صادق في نقل هذه التجربة، ويجب أن يُخلق علاقة تعاقد بينهما وعلاقة ثقة وايمان بالنص المغنّى، ومستحضِراً لحدث من الماضي أو لرؤية مستقبلية لواقع انساني يعيشه الاخير.
اذاً الاغنية هي ذاكرة بالنسبة لمن عايش ميلادها ونموها. فالاغنية كائن حي ينمو ويشيخ ويموت ليفسح المجال لميلاد نوع غنائي جديد، لكن الغناء في النهاية وجدان لكل من قُدّر له الميلاد والحياة. الاغنية هي انتماء للارض والوطن والانسان وفي نهاية المطاف هي انتماء للوجدان بشكل خاص.
في الختام ان أزمة الثقافة العربية وأزمة الاغنية الملتزمة هي ازمة حريات بالدرجة الاولى، وأزمة انتاج واعلام في الدرجة الثانية. فالشاعر والملحن والمبدع والمؤدي ليس حرا، كذلك الجمهور ليس حرا بسبب انظمة لا تؤمن بالكلمة الحرة، وبسبب شركات انتاجية واعلامية مرتبطة في غالب الاحيان بأنظمتها لبث كل ما يسهم بتخلّف وتأخير وطمس ذاكرة شعوبها، ولا يبقى الا التبجيل بالعائلة الحاكمة. فوسط هذه الحلقات المتشابكة من اللاحرية واللاعدالة، تتعرض الفنون عامة والفن الملتزم خاصة للكثير من النمطية والتكرار والروتين القاتل لفن يُفترض أن يجدد الوجدان والذاكرة والفكر وخلق مفهوم وطني موحد لجميع أبنائه.
  ان الحرية بمعناها الكامل تقتضي التحرر من العوامل الخارجية أولا والتحرر من العوامل الداخلية الذاتية ثانيا، فلا حرية دون المصالحة مع الذات وتحريرها، لذلك معقود على الاغنية الملتزمة طرح الصدق الفني والمصداقية في الابداع ولن يتم ذلك الا عبر بوابة الحرية والتحرر. واسمحوا لي أن أتوجه بعميق الشكر والامتنان لكل من ساهم وما زال في هذا النمط من الاغنية المحرضة للذاكرة والمطلقة العنان للفكر الثوري الداعي للحرية والاستقلال والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، فكم كان لهذه الاغنية دور تحريضي ألهب حماسة الثوار من اجل تحرير الارض المغتصبة من عدو غاشم.

* ورقة قُدمت في إطار محور "المقاومة والفن الملتزم" خلال المؤتمر السنوي للتجمع الوطني لدعم خيار المقاومة المنعقد يومي السبت والأحد 15 و16 كانون الأول/ ديسمبر 2007 في قصر الاونيسكو ـ بيروت.
الانتقاد/ العدد1263 ـ 18 نيسان/ أبريل 2008

2008-04-18