ارشيف من : 2005-2008
إضاءات على الحركة الجهادية للإمام الحسن العسكري (ع)
عند البحث في الحركة الجهادية التي قام بها الإمام الحسن العسكري (ع)، تبرز عدّة محاور من العمل كان الإمام (ع) قد سلّط الضوء عليها، وسعى لتحقيق أهدافها الواضحة والمدروسة فترة حياته الشريفة، والتي استمرت ما يقارب ثماني وعشرين سنة.
وقد تضمّنت هذه المحاور:
أولاً: مقاومة الحكام الظالمين، والتأكيد المستمر على عدم شرعية خلافتهم.
ثانياً: التصدي لمحاولات التشويه الفكري والعقائدي الناشئة من التيارات الفكرية المنحرفة.
ثالثاً: تعميق الارتباط بمؤسس الدولة العالمية العادلة الإمام المهدي (عجل)، هذه المحاور مثلث الأرضية الممهدة لتحقيق الهدف الأكبر والأساس في حركة الأئمة (ع) جميعاً، ألا وهو إقامة الحكومة الإسلامية العادلة، ولذا نجد ان ترابطاً وتكاملاً فيما بينهما، فالإحاطة بالحكام الظالمين وتعريتهم أمام الجماهير، وسلب قناع الزيف والخداع عنهم، هذا القناع الذي طالما تستروا خلفه بعد أن ورثوه عن آبائهم وأجدادهم، يحد من حملات التشويه والتحريف والتمييع الديني والعقائدي الذي مارسه هؤلاء عبر وعاظ السلاطين والمتكلمين والفلاسفة وأمثالهم، ويظهر نقاء أطروحة الإسلام المحمدي الأصيل، المتمثل بخط الإمامة والانضواء تحت راية وولاية خاتم الأئمة (ع)، الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
فما أن تتوافر هذه المقومات تكون الأمة قد خطت خطوة كبيرة ومهمة نحو إقامة الحكومة الإسلامية العادلة.
فالإمام الحسن العسكري (ع) أراد فترة حياته المباركة، أن يأخذ بيد الأمة ويخطو بها هذه الخطوة المفصلية، ويصنع مجتمع التمهيد والتوطئة للإمام المهدي (عج) ومن أبرز هذه المواقف، موقفه تجاه ولده الإمام المهدي (عج)، خاصة إذا لاحظنا بعين الاعتبار أن الزمن الذي تحدثت عنه الروايات من لدن رسول الله (ص) إلى الإمام العسكري (ع)، حول الشخصية المهدوية أصبح وشيكاً وقريباً جداً، بل هو واقع لا محالة، ما فرض من الإمام (ع) إعداد خطة متقنة ودقيقة تراعي الظروف والملابسات المحيطة به، دون المساس بأهدافه المحورية، فنجده (ع) وبدءاً من زواجه بابنة ملك الروم السيدة مليكة، أم الإمام المهدي(ع)، وما تلا هذا الزواج من حمل وولادة، وصولاً إلى فترة ما بعد الولادة وحتى شهادته (ع)، نجده قد اعتمد أسلوب السريّة والكتمان، بغية انجاح مشروع التوطئة والتمهيد للحجة المنتظر(عج).
وما ذكره التاريخ من تغيير الإمام الحسن العسكري (ع)، اسم أم الإمام المهدي (ع)، ومنحها عدة أسماء بين آونة وأخرى، والتكتم على أمر الحمل وكذلك ولادة الإمام المهدي (ع) لدرجة أن الخادم في بيت الإمام العسكري (ع) لم ينتبه إلى شيء ولم يفهم شيئاً ـ كما جاء في كتاب (تاريخ الغيبة)ـ وعدم التصريح باسم الإمام المهدي (ع) وتوصية الإمام العسكري (ع) لأصحابه بالسرية والكتمان، كما ورد عن الإمام (ع) لأحمد بن إسحاق:
"ولد لنا مولود، فليكن عندك مستوراً، وعن جميع الناس مكتوفاً"، كل ذلك يعبّر عن منتهى الدقة والحذر الذي انتهجه الإمام العسكري (ع) لئلا تمس خطته التمهيدية أو تخدش.
إلا أن هذه السرية لم تكن مطلقة، إذ كان لا بد أن يرافقها إعلان ولو على نحو ضيق ومحدود عن ولادة مؤسس الدولة العالمية ومشيد صرحها، ووجوده حياً يرزق بين شيعته ومواليه، وهذا ما فعله الإمام العسكري (ع)، حيث كان بين فترة وأخرى يظهر ولده الإمام المهدي (ع) لبعض الخواص من شيعته، وقد ذكر المؤرخون وكتّاب السير أن أوسع إعلان قام به الإمام العسكري (ع) عن ولادة ابنة الإمام المهدي (ع) كان قبيل شهادته بأيام في منزله الذي كان غاصاً بأربعين رجلاً من الأصحاب والمخلصين، إذ أخرج الإمام العسكري (ع) ولده لهم قائلاً:
"هذا صاحبكم بعدي، وخليفتي عليكم".
من هنا ذهب كتّاب السير إلى القول بأن الإمام العسكري (ع) واجه وظيفتين مزدوجتين تجاه ولده المهدي (ع)، فهو من جهة يريد أن يثبت للأمة ولقواعده الموالية وجود الإمام المهدي (ع)، وتحقق الحجة من وجوده على الموالين خاصة والمسلمين عامة، ومن جهة ثانية، عليه أن يحافظ على حياة ابنه الإمام المهدي (ع) من القتل والمطاردة من قبل السلطة الحاكمة، التي كانت تدأب ليلها ونهارها في السعي للقبض عليه.
وبالرغم من قصر مدة إمامة الإمام العسكري (ع) ـ ست سنوات تقريباًـ قياساً بغيره من الأئمة (ع)، ومراقبة السلطة الدائمة لتحركاته، إلا أنه قد نجح في مشروع التوطئة، وهذا ما يؤكده التفاف شيعة أهل البيت (ع) حول الإمام المهدي (ع) بعد شهادة أبيه الإمام الحسن العسكري(ع) من خلال الاتصال بالسفراء على مر زمن الغيبة الصغرى، واعتبارهم نواباً ووكلاء عن إمامهم الغائب، وهمزة الوصل بينهم وبينه(ع)، بحيث أن الموالي منهم يبث شكواه ومسائله وأسئلته في أي موضوع كان للإمام المهدي (ع) من خلال السفير المنصّب من قبله(ع)، بل حتى أموال الخمس والحقوق الشرعية، كانت تصل الإمام(ع)، وكان (ع) يقوم بتوزيعها ووضعها في مواضعها الصحيحة.
كان هذا جانباً من جوانب الحركة الجهادية للإمام الحسن العسكري(ع)، التي لم تتوقف أو تخمد بشهادته المباركة، بل الشهادة زادتها توهجاً ودفعاً، وستبقى كذلك إلى ظهور قائم آل محمد عجل الله تعالى فرجه الشريف.
ايمان شبلي
الانتقاد/ العدد1263 ـ 18 نيسان/ أبريل 2008