ارشيف من : 2005-2008
متى تقول الدولة الحقيقة في قضية المفقودين وتحاكم الجناة والخاطفين؟
فتحت الذكرى السوداوية لاندلاع الحرب اللبنانية في 13 نيسان/أبريل من العام 1975، شهيّة المطالبة الشعبية العارمة بضرورة معالجة ملفّ المقابر الجماعية، وذلك في ظلّ وجود عدد هائل من المواطنين الذين خطفوا واختفوا من الحياة، وانعدمت آثارهم، بقدرة الميليشيات المتصارعة، وبعضها، مثل "القوّات اللبنانية"، وميليشيا العميلين سعد حدّاد وأنطوان لحد، لم يتهاون عن تسليم لبنانيين إلى العدوّ الإسرائيلي كما اتضح عند معاودة إطلاق سراحهم من غياهب الزنازين القاتمة السواد، والإفراج عنهم، وعودتهم إلى أهلهم وديارهم.
ولم تعط قضيّة المقابر والمدافن الجماعية حقّها بالكامل، وأهملتها الحكومات المتعاقبة منذ "إقفال" ملفّ الحرب بمفتاح "الطائف" في العام 1991، عن سابق تصوّر وتصميم، لأنّها، بكلّ بساطة ووضوح، تفضح ممارسات الكثيرين من السياسيين الذين كانوا من رعاة الحرب وأمرائها، ثمّ انتقلوا، لإدارة دفّة الحكم، وانخرطوا ضمن "مشروع بناء الدولة"، ولكن كلّ بحسب أهوائه ومزاجه، من دون أن يتخلّى عن فكرة تجديد الحرب وتأبّطها، إذا ما شعر بخطر على وجوده وحياته وطائفته ومستقبله السياسي.
ولذلك، كان البديل عن هذا التناسي والتغاضي الرسمي المقصود، تجشّم ذوي المفقودين عناء التفتيش عن فلذات أكبادهم وأزواجهم وإخوانهم، وبينهم من كان في ربيع العمر ونضارة الشباب، ولم يكن مقاتلاً، أو مسلّحاً، أو مؤذياً، وإنّما باحثاً عن لقمة عيش كريم تقيه شرّ الأيّام السوداء، من دون أن يدور في خلده بأنّ عائلته سترتدي السواد حداداً عليه سنوات وسنوات، من دون أن تفقد الأمل في العثور عليه حيّاً أو ميتاً، فالمهمّ، في نهاية المطاف، هو معرفة مكانه، ومرقده، ومدفنه، في حال التخلّص منه، أسوة ببقيّة الأموات الذين يزارون في المدافن الطبيعية والمعلنة، وهذا حقّ مقدّس لكلّ أمّ وزوجة وعائلة فقدت أحداً منها.
ونجح أهالي المفقودين البالغ عددهم 17 ألف مواطن من مختلف الطوائف والمذاهب، في إبقاء هذه القضية الإنسانية حيّة وفي واجهة الأضواء، من دون أن تتكلّل تحرّكاتهم ونشاطاتهم في إيجاد حلّ جذري لها، وهو ما استنكفت الدولة اللبنانية عن القيام به، واستقالت منه، متخلّية عن أبسط واجباتها تجاه مواطنيها، وذلك خشية التذكير بالتاريخ غير المشرّف لمن توالى على الحكم فيها، وبماضيه الأسود.
وبين الحين والآخر، تستعاد قضيّة المفقودين والمخطوفين، وتشرّع أبواب الأمل في أنظار منتظري أحبّتهم، ولكن من دون أن تكون النيّة سليمة في استكمالها حتّى النهاية بالشكل المناسب، ما يؤدّي إلى زيادة أوجاع هؤلاء الذين تفوّقوا على أيوب في صبره.
حالات
فالأحاديث المتكاثرة عن وجود مقبرة جماعية هنا، أو هناك، تزيد من هموم الأهالي الذين باتت لديهم القناعة بأنّ الحكومات المتوالية، تصرّ على التعاطي بأسلوب سلبي مع قضيتهم، وما يضاعف من شدّة الأمر هو السرعة القصوى في التذكير بهم، ثمّ نسيانهم من دون المضي حتّى الخطوة الأخيرة، فما هو ذنب الأهالي لكي يتمّ التلاعب بأعصابهم التي لم تعد قادرة على تحمّل المزيد من المفاجآت غير السارة في هذا الملفّ الضخم، باعتبار أنّه ما أن يجري الحديث عن مقبرة جماعية وتحديد مكانها حتّى تتدخّل المصالح السياسية وتحول دون كشف الحقيقة، وتتستّر على المجرمين الأحياء، كما ساورت الشكوك الكثيرين في مسألة المقبرة الجماعية في محلّة حالات والتي كانت تحت سيطرة "القوّات اللبنانية" خلال الحرب اللبنانية.
وتعبّر رئيسة لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين وداد حلواني بكثير من الحنق والغضب عمّا يحصل معهم، وتسأل "هل العدالة فقط للشخصيات السياسية والمعروفة، فيطالب بمعرفة قتلتهم وتشكّل محاكم دولية من أجلهم، بينما المواطنون العاديون يصنفون على أنّهم برغش ولا يستحقّون أدنى اهتمام؟".
عنجر
وتطلق هذه القضية موجة من التساؤلات والاستفسارات التي لا تجد لها أجوبة مقنعة، فلماذا لا تهتمّ الدولة بما فيه الكفاية بأبنائها المخطوفين؟ ولماذا لا تنبش المقابر الجماعية المعلن عنها كلّها دفعة واحدة، وتخضع البقايا الموجودة فيها للفحوصات المخبرية والجينية والحمض النووي، فتعرف هوّيات أصحابها وتسلّم لذويها، أم أنّ المسؤولين والسياسيين كلّما احتاجوا إلى موقف سياسي فتحوا مقبرة، كما حصل في بلدة عنجر حيث وجّهت أصابع الاتهام مباشرة إلى سوريا، باعتبار أنّ مقرّ استخباراتها يقع ضمن جغرافيتها، قبل أن تظهر الحقيقة ناصعة بأنّ المقبرة التي هلّلت لها قوى 14 شباط/ فبراير، هي مقبرة عادية لمواطنين ماتوا بشكل طبيعي، في سنوات مختلفة، وأقربها خمسون سنة، أيّ قبل الوجود السوري في لبنان بسنوات وسنوات.
واستجدّ موضوع المقابر الجماعية تحت وطأة الذكرى السنوية الثالثة والثلاثين للحرب الملعونة التي لم تُبق ولم تذر، ومع الإعلان عن وجود مقبرة مماثلة على أوتوستراد حالات حيث قيل إنّ الجثث تعود لعسكريين من الجيش اللبناني قضوا في معركة القليعات ضدّ "القوّات اللبنانية" في 30 آذار/ مارس من العام 1990، وإنّ أعمال الحفريات على الطريق قبل ستّ سنوات كشفت عن روائح كريهة اوحت بوجود المقبرة التي أعيد طمرها من دون أن تعرف أسباب هذا التجاهل.
وقد رسمت علامات استفهام كثيرة حول هذا الموضوع الحسّاس الآن، فهل ما تمّ طمره سابقاً، يمكن فتحه الآن، ومن يمكن اتهامه بهذه المقبرة موجود في الحكم ومن أقطاب فريق السلطة. والدليل برأي مراقبين متابعين التعاطي السريع مع نبش هذه المقبرة، وقد يكون في الموقع غير الصحيح، ولذلك كانت النتيجة سلبية، فلم تظهر بقايا الجثث، كما كان منتظراً، بل سيق "المكتشفون" إلى التحقيق بداعي إعطاء معلومات كاذبة، والغريب أنّ أوّل المنتقدين للحديث عن هذه المقبرة هو رئيس الهيئة التنفيذية في "القوّات اللبنانية" سمير جعجع.
لقد توصّلت لجنة التحقيق الرسمية للاستقصاء عن مصير المفقودين إلى خلاصة مدهشة، فقالت بأنّ المقابر الجماعية موجودة في مختلف المناطق اللبنانية، "فالجثث ألقيت في أماكن مختلفة من بيروت، وجبل لبنان، والشمال، والبقاع، والجنوب، وتمّ دفن البعض منها في مقابر جماعية داخل مدافن الشهداء في منطقة حرج بيروت، ومار متر في الأشرفية والإنكليز في التحويطة، وتمّ إلقاء بعضها في البحر". وبالتالي فإنّ جميع المفقودين ماتوا.
ولكنّ هذه المأساة الإنسانية لم تنته في نظر المفجوعين بالانتظار المميت، مع فتح المقابر بلغة سياسية حادة لا توصلهم إلى الحقيقة المرتجاة. وباستثناء المقبرة التي عثر عليها في بلدة ربّ ثلاثين الجنوبية، وهي تعود لخمسة شهداء من المقاومة استشهدوا خلال هجوم لجيش الاحتلال الإسرائيلي على تلّة البلدة في العام 1980، وباستثناء المقبرة الجماعية للعسكريين في وزارة الدفاع الوطني في اليرزة، وباستثناء المقبرة في تلّة السدانة في بلدة شبعا حيث دفن خمسة مقاومين أيضاً على يد أحد الرعاة في العام 1990، وباستثناء مقبرة القليعة التي وجدت في العام 2006، وضمّت رفات عشرين عسكرياً من الجيش اللبناني من منطقة العرقوب قتلوا في العام 1976، فإنّه لا أثر لأيّ مقبرة أخرى، وكأنّه لم تقع مجازر في الشوف وعاليه والمتن وكسروان وبيروت.
متى تفرج الدولة عن ضميرها وتقول الحقيقة في قضية المفقودين وتحاكم الجناة والخاطفين، أم أنّ الحقيقة مطلوبة فقط للسياسيين؟
علي الموسوي
الانتقاد/ العدد1263 ـ 18 نيسان/ أبريل 2008