ارشيف من : 2005-2008
الحقيقة لأجل لبنان: هل هي حقيقة واحدة؟
كتب ليلى نقولا الرحباني
اذا كان جلاء الحقيقة في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري قد حاز اجماع جميع اللبنانيين موالاة ومعارضة، بحيث ان التفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله نص في فقرة واضحة وصريحة على ادانة الاغتيال السياسي وكشف هوية مرتكبيه وتقديمهم للعدالة، وقد اقرت طاولة الحوار المبادئ نفسها، فلماذا لا يكون كشف مصير المفقودين وجلاء حقيقة اختفاء سبعة عشر الف مفقود في الحرب اللبنانية هو من الامور الاجماعية ايضاً؟ ولماذا لا يكون لعائلات الضحايا نفس الحقوق كما لعائلة الحريري التي تريد جلاء هوية مرتكبي جريمة الاغتيال؟
بالرغم من مصابهم الجلل، وحزنهم الذي نشاركهم فيه، ان وضع آل الحريري افضل بكثير من وضع اهالي وذوي المفقودين في الحرب والمعتقلين في السجون السورية، فآل الحريري قد تيقنوا من استشهاد الرئيس الحريري فبكوه وأقاموا الحداد عليه، ولم يكتفوا بذلك بل سعوا مع المجتمع الدولي الى اقامة محكمة دولية لمعاقبة مرتكبي هذه الجريمة الشنيعة. ولكن، من يريح قلب الامهات اللواتي فقدن اولادهن وازواجهن ولم يعرفن شيئاً عن مصيرهم؟ من يؤكد لهذه الزوجة او تلك ان زوجها قد مات لتبكيه وتعلن الحداد، ثم تنصرف لحياتها.. اما آن لليل الاهالي الحائرين ان ينتهي؟
الا يستحق مفقودو الحرب اللبنانية محكمة ـ لا نطلبها دولية ونكتفي بمحكمة داخلية ـ تقوم باستدعاء امراء الميليشيات لسؤالهم عن مصيرهم؟ واذا كانت المحكمة ترتب احكاماً قضائية وقد يتهرب من ذلك مسلحو الميليشيات السابقة التي عاثت تقتيلاً واجراماً خلال الحرب، فما الذي يمنع من ان تشكل الحكومة اللبنانية لجنة تقصي حقائق، مهمتها الكشف عن مصير المفقودين من خلال الاستدلال على "جميع" المقابر الجماعية، وفتحها والتعرف الى هوية الجثث الموجودة فيها؟ اما آن الاوان لتتم المصالحة الحقيقية ولتندمل جراح الحرب الاهلية؟
"من حقنا ان نعرف"، شعار طرحه اهالي المفقودين منذ زمن، وهم في هذا الطرح كانوا متسامحين متساهلين في ابسط حقوقهم الانسانية والعاطفية والعائلية والقانونية. كان من المفترض بهم ان يرفعوا شعار "من حقنا ان نعرف، ونحاسب، ونقاضي". لكنهم، ترفعوا عن المحاسبة والمقاضاة، وتركوا الامر للمحاسبة الالهية، تحاسب من تشاء وتعفو عمن تشاء كون الله هو القاضي الاكبر والاعدل... ولكن حتى "حق المعرفة" و"اراحة قلب الام المرهق" استكثرتها السلطة اللبنانية عليهم.
خلال فترة الوصاية السورية على لبنان، حاول الاهالي اثارة قضية هؤلاء المفقودين، فكان يتم التعمية والتسويف، لذا سيطر على ذهن الرأي العام خلال تلك الحقبة فكرة مفادها: ان السوريين لا يريدون فتح الملف. ولكن بعد مسرحية البحث عن المقبرة الجماعية التي تمت في حالات، وبعد الادعاءات و"المسلات التي نعرت اصحاب الشأن" لم يعد هناك التباس في الموضوع، بل انكشف امام الرأي العام اللبناني حقيقة متجلية وهي: ان حكام اليوم وهم انفسهم حكام فترة الوصاية لا يريدون فتح هذا الملف لانه يدينهم، ولانه يكشفهم ويعرّيهم امام الشعب اللبناني ويكشف فظائعهم.
لقد استهترت حكومة السراي بمسرحيتها في "حالات" بأبسط الحقوق الانسانية والمواطنية؛ حق معرفة مصير مواطنين فقدوا خلال الحرب. هذه السلطة اللبنانية التي قامت على المتاجرة بدماء الشهداء، وعلى رفع صورهم أداة للابتزاز السياسي وتحصيل الاصوات الانتخابية.. انها نفسها الحكومة التي انبثقت عن اكثرية رفعت شعار "اقترعوا للائحة الشهيد" و"كل من اقترع للائحة المنافسة يكون قد اقترع للقتلة"... انها نفسها الحكومة التي ينصّب رئيس اكثريتها الوهمية نفسه قاضياً ومدعياً عاماً، وينطلق من مواقف ثأرية لا صلة لها بالعدالة، فيعتبر ان اطلاق سراح الضباط الاربعة هو قتل الحريري مرة اخرى.. هذه الحكومة نفسها، تحاول ان تقنعنا ان لا مجازر حصلت خلال الحرب، وان لا مفقودين ولا شهداء ولا ضحايا..
هذه الموالاة وحكومتها تريد ان تقنع اللبنانيين بأن ما اعترف به بعض الميليشياويين السابقين امثال " كمال فياض" الذي اعترف بقتل الشيخ صبحي الصالح بأمر من وليد جنبلاط وغيره وغيره، كلها امور من نسج الخيال..
من حيث القيمة الانسانية والمواطنية، من المفترض ان الانسان المواطن قيمة بحد ذاته الا اذا اعتبرنا ان الوضع المادي والسياسي هو معيار لتزيد قيمة المواطن في نظر السلطة الحاكمة، ولترتفع قيمة الانسان في مقامه الانساني وفي حب اهله له وتعلقهم به.
بالنسبة لهذه الموالاة الفاقدة كل حس انساني واخلاقي ووطني، يُختصر تاريخ الوطن والعائلات والمواطنين والشهداء، تماماً كما تُختصر اسماء المدارس والجامعات والمطار والشوارع والمستشفيات في لبنان.. باسم شهيد واحد وعائلة واحدة... فمرحباً بحقوق الانسان والمواطن في ظل حكم العائلة في لبنان.
الانتقاد/ العدد1264 ـ 25 نيسان/أبريل 2008