ارشيف من : 2005-2008
ما قبل الحرب وما بعدها..
أن تولد في 13 نيسان/ أبريل فهذا يعني انك ستكون تذكرة لأهوال جرّت على الوطن ويلات ومآسي، ليس أقلها مئات آلاف القتلى والجرحى ودمار وخراب ما زال شعب لبنان يدفع أثماناً باهظة بسببها، حتى وصلت ديونه إلى 45 ملياراً من الاوراق الخضراء.. الاميركية.
لكن ما يخفف عنك هذا العبء هو انك ما خضت يوماً في الدم الوطني، ولا نهبت ولا قتلت، ولا ارتكبت مجازر طمر ضحاياها هنا وهناك..
لكني أذكر أنني ولدت قبل بدايتها ببضعة أعوام، ويوم بدأت لم اكن بالقادر على المشاركة فيها، يبقى ان في الذاكرة حادثة يمكن ان تروى لتكون عبرة..
يوم بدأت الحرب، وبدأ القتل على الهوية، كان والدي يعمل على السقالة في إحدى الورش، وفجأة يسمع من يناديه من الأسفل..
نزل والدي على الحبل من الطابق الخامس ليجد قريباً له يحمل اسمه ووجهه "مورّم" ويعرج، فقال له لا تذهب إلى المنطقة الفلانية، فقد نصبوا لك حاجزاً هناك وهم يبحثون عنك، وقد ضربونا لمجرد تشابه الاسماء.
عاد والدي في تلك الليلة الى المنزل، وكان كما الكثيرين قد انضوى في مجموعة لحماية المنطقة من الهجمات الغادرة، وأراد الذهاب إلى إحدى نقاط الحراسة، وطلب من امي ان تناوله "البارودة" ـ بالمناسبة كانت سيمينوف تلمع فلم يكن قد اطلق منها ولا طلقة بعد، وكانت تدور على الرفاق ـ وكأي ولد أردت المفاخرة فركضت وحملتها وتقدمت باتجاهه وأنا أصوبها عليه، انتفض احد رفاقه محذراً، لكن والدي اخبره ان من كانت معه البارودة لا بد وانه اخرج الطلقة من "بيت النار"، فأصر الصديق على فحص البارودة.. فما كان من والدي الا أن وجه فوهتها نحو السقف واطلق النار، فإذا برصاصة تخرج منها ثاقبة السقف..
عندها اصفر وجهي.. وتراجعت إلى الخلف، وصعق الحاضرون فلو أني تمكنت من الضغط على الزناد لكان المحظور قد وقع وكان ما كان..
هي الحرب.. الاهلية، وربما يومها كان عنوان الخبر: ولد يقتل أباه..
هذه عينة مما كان يحصل في تلك الحرب الملعونة..
في حين ان ما قبل هذا التاريخ كان حافلاً بقصص قد يصفها البعض بالخيالية..
فمن حكايا أهالي الضاحية ان احد الجزارين من شيعة برج البراجنة كان يذبح لصاحب ملحمة في الحدث، إفساحاً في المجال امام القاطنين المسلمين في تلك المنطقة لشراء اللحمة من ذلك القصاب المسيحي، وأذكر جيداً حكايا أمي عن زير الزيت و"عمتي" من آل حنين، التي كانت تأتي إلى بيت جدي فتدخل إلى غرفة المونة وتملأ "ألفية الزيت" من زير بيت جدي يوم كان الزيت ينتهي عندهم، والعكس صحيح..
اما دار الامارة في خلدة، وقصص الفواكه المتنقلة بين الغدير والبرج فلها الف حكاية.. وحكاية..
ترى من يريد للحرب ان تذهب بالخير الذي كان موجوداً في تلك الايام إلا تجار الدم.. والعصبية، والحقد على الآخرين لمجرد انهم ليسوا مطيعين لأوامره..
بوادر عودة الايام الحلوة عادت، يوم دخل رجلان من ذاك الزمان إلى كنيسة مار مخايل، واخرجا الملاك الحارس ليرفرف بجناحيه من الضاحية على كل الوطن..
لن تعود الحرب، ولن يعود رجالها..
وسيبقى الرجال الرجال.. في ساحة "عين السكة" حاملين مشاعلهم ليرشدوا الضالين، برغم انوفهم..
وفي اليد الأخرى "البارودة" ليخرجوا كل محتل من أرضنا.. مهما علا دوي جنازير دباباته.. ولن يرضوا بعد اليوم بدفع "الدخولية" على بوابة العاصمة، لأنها واهلها في كل عين برغم "العثملي" الجديد..ورنة ليراته الذهبية..
مصطفى خازم
الانتقاد/ العدد1263 ـ 18 نيسان/ أبريل 2008